الأحد، يوليو 31

مناهجنا وناقدوها في رسالة علمية ، للشيخ د. عبدالله بن عبدالعزيز العنقري


مناهجنا وناقدوها في رسالة علمية
بقلم د. عبدالله بن عبدالعزيز العنقري
تحدث كثيرون - على مدار أكثر من عشر سنين - عن مناهج التعليم في بلادنا، هجومًا عليها، ودفاعاً عنها، وتوالت الوجهات المتباينة من خلال المقالات الصحفية والمواقع الإلكترونية واللقاءات الإذاعية والتلفازية.


بيْدَ أن البحوث الجامعية، سواء في مرحلة الماجستير أو الدكتوراه كانت هي الأقوى، لما فيها من تحليل دقيق لمحتويات المقررات التي يدرسها أبناؤنا داخل قاعات الدراسة - وهي في الواقع دليل التهمة أو البراءة للمناهج - كما تتميز البحوث الجامعية باستقراء معمّق لما وجِّه للمحتوى من نقد محدد، وذلك ما يحتاج الباحث معه إلى نفس طويل في الاستقراء، ثم الوصول إلى نتيجة لن يسهل التسليم بها إلا وفق معيار علمي دقيق تتحقق من وجوده لجنة تحكيم متخصصة، وهذا ما يجعل البحوث الجامعية المقدمة في هذا الموضوع أقوى من غيرها، من مقالات بعض الناقدين التي لاحظنا أن شيئاً كثيراً مما فيها ما كان إلا مجرد وليد ساعته التي كُتبت فيها، بحيث لا تملك إلا أن تصفه بـ (وجهة نظر) للكاتب لم يُراع فيها جانب الإقناع العلمي الذي يُفترض أن يضعه كل كاتب نصب عينيه، ليكون لكتابته مصداقية تحمل القارئ على احترام مقالته.

ومن أشهر الرسائل العلمية التي تناولت موضوع المناهج في بلادنا رسالة الدكتور أحمد الرضيمان، وقد طبعت عام 1430هـ في أكثر من (600) صفحة، استقرأ الباحث في الباب الثاني منها جملة واسعة من الانتقادات المرتبطة بمسائل العقيدة في مقررات التعليم العام في المملكة. ومنذ أيام قريبة نوقشت بجامعة الملك سعود بالرياض رسالة ماجستير تناولت موضوعاً بالغ الأهمية هو: (الأمن الفكري في مقررات التوحيد في المرحلة الثانوية) دراسة تحليلية، للباحث أيمن العليان، وتقع الرسالة في أكثر من (440) صفحة، خصَّص الباحث منها أكثر من (120) صفحة لاستقراء الموضوعات المتعلقة بمقرر التوحيد تحديداً في المرحلة الثانوية، ومدى حمايتها لأمن الطلاب الفكري من عدمها، مع ربط هذه الموضوعات بصفحاتها في جميع سنوات الدراسة الثلاث، ولا يخفى ما في هذا الاستقراء من الجهد الشديد، غير أن الباحث حقق بذلك ما يُعدّ الركن الأهم في توضيح محتويات المقرر، بما تبيّن به للقارئ حقيقة ما في هذه المقررات من مادة علمية، قبل الخوص في إصدار أي حكم على المناهج، سواء أكان سلبياً أو إيجابياً.

وبعد هذه المرحلة دخل الباحث في مناقشة ما وُجِّه للمقررات من انتقادات استقرأها أيضاً من مصادر متعددة، منها المقالات الصحفية والمقالات الإلكترونية والأوراق المقدمة للقاءات المحلية، وكذا التقارير الأجنبية التي تحدثت عن المناهج السعودية. فمن هنا كانت مصادر الانتقادات مُنوَّعة من جهة، ومتماشية مع مسار النقد الموجَّه للمناهج، سواء في البعد الزماني أو المكاني.

والحقُّ أن النتائج التي وصل إليها الباحث في موضوع شديد الخطورة - وهو موضوع الأمن الفكري - جديرة بالعناية من كل مهتَم بأمور هذه البلاد.

ولست أريد الدخول في نتائج البحث، لأن موضعها المناسب هو الرسالة العلمية نفسها غير أني أحب التركيز على مسألة محددة - تناسب المقالة الصحفية - أشار إليها الباحث، وكانت مثار غرابة عندي طوال فترة إشرافي على الرسالة. ومن المناسب جداً في منبر إعلامي كالجزيرة أن أعرض ذلك بصراحة ووضوح تامّين، بغرض أن نصل في مقالاتنا وطرحنا إلى المصداقية التي يُفترض أن تكون مسألة غير قابلة للاهتزاز أمام قرائنا. هذه المسألة هي ما وصل إليه الباحث من ملامح عامة لكثير من الانتقادات الموجهة للمقررات كان منها ما عبّر عنه بـ (أصعب ما يأسف له المنصف). ومن نماذجة البَتْر المتعمّد للمنقول من المقرر، وعرضه بغير ما هو عليه في واقع المحتوى الموجود أمام الطالب، ليصل الناقد إلى إدانة المقرر، بناء على هذا البتر الذي قام به هو!.

ومن أعجب الأمثلة على هذه الممارسة المؤسفة حذف بعض الناقدين شرطاً ربط به الكتاب حكماً من الأحكام ثم وجَّه الناقدُ للكتاب اللوم لإطلاقة الحكم، دون أن يذكر هذا الشرط، مع أن الشرط موجود في الكتاب، غير أن الناقد قام بحذفه، وهذا الأسلوب مؤسف إلى أبعد حدّ، لما تضمنه من أسلوب نادر في الإدانة، ومجانبة غير مقبولة للحقيقة والموضوعية.

ومن ضمن ما أسف له الباحث توجيه النقد لمحتوى استُدلّ عليه في المقرر بنصوص من الكتاب والسنة - مع الحذف المتكرر لهذه النصوص - دون أن يبين الناقد موقفه من تلك النصوص التي هي مُستنَد ذلك المحتوى المنتقَد.

وأصعب من ذلك توجيه النقد لمقولات نقلها المقرر عن بعض الصحابة وبعض أهل العلم، لكن دون أدنى إشارة إلى أن هذه المقولات لأحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أهل العلم، بما أشعر القارئ أن العبارة المنتقَـدة هي من صياغة مؤلفي الكتاب أنفسهم، لا مما نقلوه عن غيرهم من الصحابة وعلماء الأمة، وهو ما يستدعي - في نظر الباحث -أن يحدّد الناقد الطرف المستهدَف بالنقد، أهم هؤلاء المنقول عنهم، أم المقرر الذي نقل ذلك؟ وعندها سيحتاج الناقد إلى ذكر سبب موضوعي للتفريق بين الناقل والمنقول عنه!.

ومن هنا رصد الباحث نتيجة عجيبة في هذه الجزئية، وهي أن عدداً من التهم التي ناقشها لكونها مُوجَّهة للمقرر كانت - في الواقع - موجهة لأقوال السلف الصالح الموجودة في دواوين كتب السنة وكتب الاعتقاد، قبل أن تكون موجودة في المناهج!.

ومن ضمن ما أسف له الباحث أيضاً إطلاق تُهم كبيره للمقرر، ثم تقديم حجج لا ترقى عند النقد العلمي الموضوعي إلى حد إثبات هذه التهم، وكان المفترض أن لا تطلق تلك التهم - التي غُلفت بعبارات لم تَخْلُ من التهويل - إلا وفق أدلة دامغة تؤكد هذه التهم، ومن ضمن ذلك أن بعض من وجَّه النقد قد أقحم نفسه في مسائل دقيقة جداً، مع كونه غير مستوعب للموضوع الذي خاض فيه، واستشهد الباحث على ذلك بعبارات خاطئة في الميزان العلمي تضمنها كلام هذا الناقد دلَّت على عدم درايته بما خاض فيه!.

ومن ضمن ذلك أن بعض النقد كان من بنات الفكر التي لم تُبن على دراسة مؤصلة حسب المنهج العلمي، بل كان وليد الساعة التي كُتب فيها فحسب.

والأمثلة على الملامح العامة التي أحببت التنويه عنها كثيرة منشورة في الرسالة لمن أراد أن يراجعها، والباحث مع هذا لا يستميت في الدفاع عن المناهج، بل كما انتقد البعد عن الموضوعية الموجود في الانتقادات فقد نبّه على أكثر من ثلاثين موضعاً في المناهج ينبغي استدراكها، غير أن الأمر المطمئن، والباعث على الارتياح أن جميع انتقادات الباحث - بعد هذا السبر المطوَّل للمحتوى - لم تتضمن رصد أي خلل يمكن أن ينعكس سلباً على طلابنا في جانب أمنهم الفكري، سواء بغرس الغلو في مفاهيمهم أو تشجيع السلوك العدواني لديهم، بل جميع هذه المواضيع المنتقدة - كما قرر الباحث - من قبيل النقص في الناحية العلمية أو الشكلية، وذلك ما لا يخلو منه عمل بشري، فلذا ضمّن الباحث رسالته تقويماً لهذه المواضع، يُرجى أن يستفيد منها القائمون على متابعة المقررات بصفة دورية.

وأختم مقالتي بالتأكيد على أمرين اثنين؛ الأول: أن هذا الوطن - وهو مهوى أفئدة ملايين المسلمين - أمانة في عنق الجميع، والمقومات العظيمة فيه، ومن أشرفها مناهجه التعليمية لا ينبغي أن تُنتقد إلا بالأسلوب العلمي، وبخاصة من قبل أبناء هذا البلد، لأن تحميل مناهجنا تُهماً كباراً غير موضوعية يؤدي إلى إساءة، الظن بالبلد الذي نشر هذه المناهج في جنباته، ونشَّأ عليها أجياله، مما يجعل المتربّص بهذا البلد يستشهد في هجومه على مناهجنا بشهادة أبنائنا، وهو بالتحديد ما رصدته هذه الرسالة أيضاً في تصريحات ثُلّة من المتعصبين الصهاينة والمتعاطفين معهم في الولايات المتحدة.

ومن المؤكد أن موضوعاً مهماً، كالمناهج التعليمية يمر بحلقات ولجان متعددة تتولى فحصها من عدة جوانب علمية ومنهجية وتربوية وغيرها، يشترك في هذه المهمة عدد غير قليل من الفاحصين في هذه التخصصات.

ولا يعني هذا بحال أن هذه المناهج غير قابلة للنقد، إلا أن المطلوب هو النقد العلمي المؤصّل البعيد عن الخاطرة التي هي وليدة الساعة.

وقد لاحظنا تراجع بعض من نقدوا المناهج في المملكة وتخطئتهم لما كتبوه وإقرارهم بأنهم جانبوا الإنصاف فيما كتبوه، ومع ما يحمله هذا التراجع من وجه إيجابي، إلا أنه يؤكد على أن ثمة تسرعاً حقيقياً في قذف التهم.

الأمر الثاني: أن نقد مناهج بلادنا من قبل أبنائنا كان - ينبغي من باب الإنصاف - أن يكون متزامناً مع نقد مناهج في دول استغلت حملة أبنائنا على مناهجنا، مع أن تلك الدول يُدرَّس فيها ملايين الطلاب صورة بالغة السوء عنّا معاشر العرب، وبعضُ من نقدوا مناهجنا - ولا أقول كلهم - مُطّلعون بالتأكيد على ما في تلك المناهج من تَجَن وظلم بالغين. ولو رجعوا فقط إلى ما رصدته اللجنة العربية لمكافحة التمييز بأمريكا (ADC) لوجدوا الحقيقة المرّة ماثلة أمامهم! فلماذا وُجّهت السهام لمناهج بلادنا، دون الحديث، عما في مناهج تلك الدول من تشويه متعمد لصورة العرب الذين وُصفوا - حسبما رصدته اللجنة المذكورة - بالبعد عن النظافة، وأنهم سفاحون، لصوص، مغتصبون، وأن نساءهم إما متخلفات في لباسهن، ولا سيما الحجاب والثوب المستور، وإما راقصات عاريات!! فأين الناقد المنصف من هذه الصورة الجائرة؟ ولماذا لم تُحمل الحملات لإزالتها من تعليم تلك البلاد، كما حُملت على مناهج التعليم لدينا؟

وبكل حال فهذه المعلومات المنوّعة عن مناهجنا ومناهج غيرنا موجودة في هذه الرسالة التي أرجو أن تكون مجلية بطريقة منصفة حقيقة ما في مناجهنا، وإن كان مما يثير الغرابة حقاً أن الوزارة المختصة لم تقم فيما أعلم إلى يومنا هذا بدراسة مُعمَّقة لما وُجّه للمناهج من نقد، لتضع الحقيقة بين يدي الناس، مع أن هذه المهمة منوطة بها قبل أي جهة أخرى، وإنما وُجدت الدراسات المعمقة خارج الوزارة، ولا سيما في الجامعات، وكأن الموضوع يتعلق بالتعليم العالي لا بالتعليم العام.

ولا أعني هنا مجرد مقالة تنشرها الوزارة رداً على مقالة صحفية أو نحوها من الخطوات التي تعد بالنسبة لمهمة الوزارة شيئاً محدوداً للغاية، ولكن أعني دراسة معمقة شاملة تتناول ما وُجِّه للمناهج من نقد وفق ما يُفترض أن يكون لدى الوزارة من طاقات ضخمة تفوق ما لدى الجامعات، كما هو الحال في الإدارة العامة للبحوث بالوزارة وغيرها من القطاعات البحثية، والله الموفق.

د. عبدالله عبدالعزيز العنقري
أستاذ العقيدة المساعد بجامعة الملك سعود بالرياض
29/8/1432



--
إن عظيم الهمة لا يقنع بملء وقته بالطاعات
إنما يفكر أن لا تموت حسناته بموته


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق