وذهب شيخ المذهب..ابن عقيل
توفي بعد ظهر الثلاثاء بمستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض 8-10-1432هـ،وصُلي عليه بعد صلاة عصر الأربعاء بجامع الملك خالد، ودفن بمقبرة أم الحمام.
بأي مدادٍ أسطّر، وعلى أي أديمٍ أحبّر، وأنّى لفؤاد مكلوم، وقلم يهتز، ويد ترتعش أن تكتب في الشيخ العلاّمة، فقيه وفقيد الحنابلة، القاضي المعمّر أبي عبد الرحمن عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل - رحمه الله رحمة واسعة -..شارع الخزان.. من الذي لا يعرفه بوسط الرياض، قدمتُ إلى منزله جوار الشارع المذكور وأنا ابن خمس عشرة سنة، لم أقرأ الفقه بعدُ على شيخ، ولم أشم له رائحة،
فدخلتُ مجلسَه ضحى، صحبةَ أفاضل لا أنسى جميلهم، وجلستُ أنتظر الشيخ الموعود، وقد ملأ القلبَ هيبةُ المجلس، وأزكى الأنف بقية البخور القابعة في أرجائه، كرسيٌّ في زاوية المجلس قد جُلس عليه زماناً، وبجواره طاولةٌ صُفّت عليها مجلدات يظهر أنها في الفقه وغيره، أسأل صاحبي فيقول إنها الكتب التي تُقرأ على الشيخ - ولكل وجهةٌ هو موليها -، سمعنا صوتاً من الداخل فأشار إلي صاحبي بلزوم الأرض، فقلتُ إن الكراسي وضعت للجلوس، فقال إن الشيخ عوّدنا الجلوس بين يديه.. لم أنته من لزوم مكاني إلا ودخل علينا شيخ في أواخر السبعين من عمره، قد صبغ لحيته بالكتم، يلبس غترةً وثوباً أبيضين، وفي جيبه ساعة مميزة، فلا تسأل عن الهيبة التي أحاطت بالقلوب، وحينها ساد الصمت المكان، وقمنا للسلام عليه وتقبيل رأسه. سألني عن اسمي، ودراستي، ثم جلسنا فقرأ عليه أكبرنا متن لمعة الاعتقاد لابن قدامة، ونحن نتابع القراءة، كل في نسخته الخاصة، ثم ابتدأ الشيخ يشرح القدر المقروء في أسلوب يجمع بين أصالة المتقدمين، وتحقيق المتأخرين، كنت أكتب على هامش نسختي ما يتيسر لي من تعليقاته، وأحس الشيخ أني لا أستوعب كتابة التعليقات، فيعيد التعليق، وينظر إلى قلمي، ثم يمضي في شرح ما بقي..
فدخلتُ مجلسَه ضحى، صحبةَ أفاضل لا أنسى جميلهم، وجلستُ أنتظر الشيخ الموعود، وقد ملأ القلبَ هيبةُ المجلس، وأزكى الأنف بقية البخور القابعة في أرجائه، كرسيٌّ في زاوية المجلس قد جُلس عليه زماناً، وبجواره طاولةٌ صُفّت عليها مجلدات يظهر أنها في الفقه وغيره، أسأل صاحبي فيقول إنها الكتب التي تُقرأ على الشيخ - ولكل وجهةٌ هو موليها -، سمعنا صوتاً من الداخل فأشار إلي صاحبي بلزوم الأرض، فقلتُ إن الكراسي وضعت للجلوس، فقال إن الشيخ عوّدنا الجلوس بين يديه.. لم أنته من لزوم مكاني إلا ودخل علينا شيخ في أواخر السبعين من عمره، قد صبغ لحيته بالكتم، يلبس غترةً وثوباً أبيضين، وفي جيبه ساعة مميزة، فلا تسأل عن الهيبة التي أحاطت بالقلوب، وحينها ساد الصمت المكان، وقمنا للسلام عليه وتقبيل رأسه. سألني عن اسمي، ودراستي، ثم جلسنا فقرأ عليه أكبرنا متن لمعة الاعتقاد لابن قدامة، ونحن نتابع القراءة، كل في نسخته الخاصة، ثم ابتدأ الشيخ يشرح القدر المقروء في أسلوب يجمع بين أصالة المتقدمين، وتحقيق المتأخرين، كنت أكتب على هامش نسختي ما يتيسر لي من تعليقاته، وأحس الشيخ أني لا أستوعب كتابة التعليقات، فيعيد التعليق، وينظر إلى قلمي، ثم يمضي في شرح ما بقي..
ولما فرغنا من اللمعة، شرع صاحبنا في قراءة متن المقنع، فكان الشيخ يقف عند كل لفظة.. يفصح عن مبناها باتزان، ويبيّن معناها على تؤدة، يربط كلام الأقدمين بنوازل المحدَثين.. فأدركتُ أن الفقه تخصصه..
ولما خرجتُ من مجلسه قلت في نفسي: هذا شيخي المنشود، فعشتُ معه - طالباً - عقدين من الزمان، تظللتُ بظلاله، وتربيت في أكنافه، ونهلتُ من علومه ومعارفه وخبرته وتجربته ما أروى الغليل، وشفى العليل.
كان يعطي كلَّ طالب حقه من الشرح بحسب مستواه وتحصيله العلمي، ولما أن التحقتُ بكلية الشريعة وقرأت عليه - صحبةَ فضلاء - في كتاب "كشف المخدَّرات شرح أخصر المختصرات"، صار يتوسّع في الشرح والتعليق، ويطلب من قيّم المكتبة (أبوشاهد) إحضار الكتب الكبار في فقه المذهب: كشاف القناع، وشرح منتهى الإرادات، فيشرح الكلمات، ويفتح المستغلقات، ويحل الإشكالات، ولا يرتاح له بال حتى تنكشف المسألة، وتتضح العبارة، ولا تسأل عن جُمَل صوبناها من لفظه، لم يتنبّه لها فضلاء الناشرين، وكبار المصححين.
كلما خرجتُ من درس الفقه عنده، قبلتُ رأسه ودعوت له، وقلت في نفسي: حفظك الله، من يشرح لنا عبارات المذهب ويكشف مخبوءها إذا غابت شمس علومك عنا..
كثيراً ما يقطع الدرسَ نداءُ الأذان، فينشغل بالترديد، والدعاء، وإذا مضى إلى المسجد أو جاء منه فلا تملك معه في طريقه غير السلام وتقبيل رأسه، فهو مشغول بالذكر والدعاء.. كان على جانب عظيم من العبادة، ملازماً للحج والعمرة إلى قريب وفاته، لا أعلمه ترك صيام الأيام البيض، كان يصومها بمكة كل شهر ويسبقها بأداء العمرة وهو صائم، ويمكث بشقته العامرة بالشامية، وله طلبة بالحرم المكي يتحرون قدومه أواسط كل شهر للقراءة عليه..
كنتُ أعجب من حرصه على مسألة يطرحها كثيراً، وهي مشروعية الصلاة على الدابة في الحضر، فقدّمتُ له بشأنها أوراق، وكتب رسالةً حرّر بها المسألة، ولما صحبتُه بسيارته إلى بعض المناسبات، زال العجب، فكان يبادر إلى النوافل مذ ركوبه إلى وصوله، وإذا ما انتهى قبل ذلك يبادر مَن حوله بالإفادة وطرح المسائل..
يحب الألغاز الفقهية، والإشكالات في المسائل، دعاني مرةً إلى شقته بشامية مكة في رمضان سنة 1418هـ، فأملى عليّ من حفظه صفحات كلها ألغاز من منظوم ومنثور، ختمها بابتسامة من محياه شجعتني على المضي في حلّها..
وعلى أن الفقه تخصصه الدقيق، فقد كان مشاركاً في سائر علوم الشريعة، فدروسه في العقيدة، والحديث، والمصطلح، والتفسير، وأصول الفقه، والنحو لم تتوقف.. وكنتُ أعجب منه حينما يحضر مجلسه بعضُ المتخصصين في العلوم الشرعية والعربية، فيباحثهم في أدق المسائل وأخفاها، ويستحضر من كلام العلماء السابقين ما يستغرب منه المتخصّص نفسه.
ولما أن تخصصت في دراستي العليا بعلم أصول الفقه، ظننتُ - بحماس الشباب - أني سأفيد الشيخ بمسائل وإحالات ربما تخفى عليه أو يبعد عهده عنها، فأجد الشيخ يستحضرها، بل وربما صحّح فهمي لأشياءَ منها..
كان مثالاً عظيماً للاحتفاء بطلابه، يسأل الطالب أولَ حضوره عليه عن اسمه ونسبه، ومكان دراسته وعمله، وكان أول أمره يثبتُ ذلك في أوراق خاصة رأيتُ بعضها، مع أرقام هواتفهم لمهاتفتهم والسؤال عنهم، وعلى كثرة تلامذته رأيته ينادي كل طالب بأحسن ما ينادى به من كنية ولقب، خصّني رحمه الله بأشياء لا أنساها ما حييتُ، منها حضوره رغم ضعفه وكبر سنه مناقشة رسالتي للماجستير والدكتوراه، حتى لامني بعض مشايخي في ذلك، وكنت أخبر الشيخ بموعدها لأجل الظَّفَر بدعائه، فكان يأبى إلا الحضور، ويقول أنت أحد أبنائي.. حضر مناقشة الدكتوراه سنة 1429هـ متكئاً على أحد أبنائه، شيخ في الرابعة والتسعين، ينزل درجةً درجة، حتى يجلس بالصف الأول، فلا تسأل عن صمت الحضور ولجنة المناقشة تحريا لرد سلامه إلى أن تمكّن من مجلسه.
كان التواضع شعاره، وحسن الخلق دثاره، أحبه الكبير والصغير، الغني والفقير، نجلس إليه في دروسه، فتمر المسألة المشكلة فيباحث الحضور ويسألهم عنها، فإذا وافق بعضهم الحقّ فيها أقرّه، وإلا بيّن ذلك بأبسط عبارة وأوفاها.. كثيراً ما يقطع الدرسَ مهاتفةُ السائلين، فيأبى إلا الإجابة، بل ربما قال للسائل: (عندي المشايخ نسألهم ونجيبكم)، فيفاجئ الحضور: (أحسن الله إليكم.. هذا يسأل عن كذا وكذا) ملتمساً الجواب - وهو أعلم به - فإذا سمع ما يوافق رأيه في المسألة، أجاب السائل: (المشايخ عندنا يقولون الجواب كذا وكذا).. كان يريد من ذلك تربية طلابه على التواضع وغمط النفس وكسر العُجب..
هو رجل تربية وتعليم من الطراز الأول، يعوّد أبناءه الكتابة في كل شيء، في أفراحهم وأتراحهم، يربي بلحظه قبل لفظه، يجلس إليه بعض الطلبة ممن لا يعرف أدب الجلوس أمام أهل العلم، فتسبق نظراتُ الشيخ عباراتِه، فسرعان ما يتغير الموقف.. لا يسمح بالنيل من أهل العلم مهما كان الحال، ولا بالغلط أو اللغط في مجلسه، وتعتريه الغضبة في ذات الله تعالى، فلا يجامل في ذلك أقرب طلابه وأحبهم إليه.. يذكرني حاله بما أقرأَنا في أبواب القضاء "قوياً من عنف، ليناً من غير ضعف"..
بيته مفتوح طوال أيام الأسبوع، ودروسه اليومية التي تبدأ من بعد صلاة الفجر إلى ما بعد العشاء لم تنقطع إلا بسفر أو موعد، وإذا ما طرأ عارض يقطع الدرس، فلا ينسى الطالب تلك الابتسامة المقرونة بالاعتذار اللطيف والدعاء، فيعود الطالب مغتبطاً بذلك..
وكان على جانب كبير من الاهتمام بصحته، يقرأ في الطب ويجمع المقالات في ذلك ويباحث أهل الشأن فيه، يتبع أساليب في المشي والمعيشة، ويتناول أشياء لا أعرفها حتى ساعتي هذه ويمنعني الحياء أن أسأله عنها، لا يقوم من نومه إلا والمنشفة على رأسه، يحافظ على الرياضة، وقد مارس السباحة حتى دخل التسعين من عمره.
عاش شيخنا محفوفاً بالعافية إلى أواخر العام المنصرم، واستمرت دروسه إلى مفتتح هذا العام، ومن أواخر دروسه اختتامه أبواب الصيام من كتاب "الروض المربع" بحاشية ابن قاسم.. أقرب كتب الفقه إلى فؤاده..
ذالكم هو شيخنا ابن عقيل.. العلَم الشامخ، والصرح الراسخ، مدرسةٌ في الأخلاق المرعية، وجامعة في العلوم الشرعية.. ستبكيه عنيزة، بل القصيم، ستبكيه أبو عريش، وصامطة، ستبكيه الرياض، بل الجزيرة.. سيبكيه أولاده وطلبته ومحبوه،، إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا شيخَنا لمحزونون..
بقلم
هشام بن محمد السعيد
http://www.alukah.net/Culture/0/34579/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق