صفحة غريبة في حياة عالم
بقلم د. صالح بن فريح البهلال
هذه مقالة تجلي شيئًا من سيرة العالم الكبير أبي بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي المعروف بالقفال الصغير؛ فلقد ترجمه السبكي في [طبقات الشافعية5/53]، فقال: (الإمام، الزاهد، الجليل، البحر، أحد أئمة الدنيا، يُعرف بالقفال الصغير المروزي، شيخ الخراسانيين وليس هو القفال الكبير، هذا أكثر ذكرًا في الكتب؛ ولا يذكر غالبًا إلاّ مطلقًا، وذاك إذا أطلق قيد بالشاشي... كان القفال المروزي هذا من أعظم محاسن خراسان، إمامًا كبيرًا، وبحرًا عميقًا، غوّاصًا على المعاني الدقيقة، نقيّ القريحة، ثاقب الفهم، عظيم المحلّ، كبير الشأن، دقيق النظر، عديم النظير، فارسًا لا يُشقّ غباره، ولا تُلحق آثاره، بطلاً لا يُصطلى له بنار، أسدًا ما بين يديه لواقفٍ إلاّ الفرار).اه.
ثم نقل السبكي عن ناصر العمري قوله: (لم يكن في زمان أبي بكر القفال أفقه منه، ولا يكون بعده مثله، وكنا نقول: إنه ملك في صورة إنسان).اه.
وإنّ لهذا العالم قصة عجيبة في سبب إقباله على العلم، فقد ابتدأ التعلّم على كبر السن، بعدما أفنى شبيبته في صناعة الأقفال، وكان ماهرًا فيها.
وكان يقول بعد أن نبغ في العلم: (ابتدأت التعلّم، وأنا لا أفرق بين اختصرتُ، واختصرتَ).
قال ابن الصلاح كما في [الطبقات5/54]: (أظن أنه أراد بهذا الكلمةَ الأولى من مختصر المزني، وهو قوله: اختصرت هذا من علم الشافعي، وأراد أنه لم يكن يدري من اللسان العربي ما يفرق به بين ضم تاء الضمير وفتحها).
ومع هذا الجهل الظاهر عند هذا الإمام في بداية طلبه للعلم، إلاّ أن شيئًا من ذلك لم يثنه، ولم يفتّ في عضده في مواصلة الطلب، بل جدّ واجتهد حتى تقمّص لباس العلم، وتذرى سنام المجد، وقد ذكر قصته مفصلة ياقوت الحموي في كتابه [معجم البلدان 5/116] فإنه قال لما تكلّم عن مرو الشاهجان (وإليها يُنسب أبو بكر القفال المروزي، وحيد زمانه فقهًا وعلمًا، رحل إلى الناس، وصنف، وظهرت بركته، وهو أحد أركان مذهب الشافعي، وتخرج به جماعة، وانتشر علمه في الآفاق، وكان ابتداء اشتغاله بالفقه على كبر السن، حدثني بعض فقهاء مرو، أن القفال الشاشي صنع قفلاً وزنه دانق واحد، فأعجب الناس به جدًّا، وسار ذكره، وبلغ خبره إلى القفال المروزي، وصنع قفلاً مع مفتاحه، وزنه طسوج، وأراه الناس فاستحسنوه، ولم يشع له ذكر، فقال يومًا لبعض من يأنس إليه: ألا ترى كل شيء يفتقر إلى الحظ؟ عمل الشاشي قفلاً وزنه دانق، وطنت به البلاد، وعملت أنا قفلاً بمقدار ربعه، ما ذكرني أحد!!
فقال له صاحبه: إنما الذكر بالعلم، لا بالأقفال، فرغب في العلم واشتغل به، وقد بلغ من عمره أربعين سنة، وجاء إلى شيخ من أهل مرو، وعرَّفه رغبته فيما رغب فيه، فلقنه أول كتاب المزني، وهو: هذا كتاب اختصرته، فصعد إلى سطح منزله وأخذ يكرر على نفسه هذه الألفاظ الثلاثة من العشاء إلى أن طلع الفجر، فغلبته عينه فنام، ثم انتبه وقد نسيها، فضاق صدره، وقال: أيش أقول للشيخ؟
وخرج من بيته، وقالت له امرأة من جيرانه: يا أبا بكر، لقد أسهرتنا البارحة في قولك: هذا كتاب اختصرته، فتلقنها منها، وعاد إلى شيخه، وأخبره بما كان منه، فقال له: لا يصدنّك هذا عن الاشتغال، فإنك إذا لازمت الحفظ والاشتغال صار لك عادة. فجَدَّ ولازمَ الاشتغال حتى كان منه ما كان، فعاش ثمانين سنة، أربعين سنة جاهلاً، وأربعين سنة عالمًا، وقال أبو مظفر السمعاني عاش تسعين سنة، ومات سنة 417ه ).اه كلام ياقوت الحموي.
وإن في سيرة هذا العالم الكبير، وسبب إقباله على العلم عدة فوائد منها:
1- أن من صبر على فعل أمر تطلبه، وجدّ في نيله فإنه يدرك مبتغاه، وينال مطلوبه، ويحقّق أمنيته، ولو بعد حين بإذن الله، فتأمّل في سيرة هذا العالم القفال، وكيف أنه صبر على مشقة العلم، ولم يدخر دونه سعيًا، فصار من جهابذة أهل النظر، ومن ذوي البسطة في العلم، وصار أسبق أقرانه غير مدافع، وأفضلهم غير معارض، مع أنه في بداية الطريق كان لا يحسن أبجديات العلم، فلا يفرق بين تاء المتكلم وتاء المخاطب، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبّر يصبّره الله)، ويقول الأول:
اطلبْ ولا تضجرْ من مطلبٍ فآفةُ الطالبِ أنْ يضجرا
أما ترى الحبلَ، بتكرارِه في الصخرةِ الصمّاءِ قد أثّرا
ويقول آخر:
إِنِّي رَأَيْتُ وفي الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ للصَّبْرِ عاقِبَةً مَحْمُودَةَ الأَثَرِ
وقَلَّ مَنْ جَدَّ في أَمْرٍ يُطالِبُهُ فاستَصْحَبَ الصَّبْرَ إِلاَّ فاز بالظَّفَر
ويقول الآخر:
والصبرُ مثلُ اسمه مرٌّ مذاقتُه لكنْ عواقبُه أحلى من العسلِ
2- أن كبر السن لا يعتبر عائقًا في تحقيق الأمجاد، والغايات النبيلة، فتأملْ في قصة هذا العالم، وكيف أنه عاش أربعين سنة منهمكًا في صناعة الأقفال، ثم لمّا أراد الله به خيرًا هداه لطلب العلم النافع.
فلا ييأس الواحد منا أن يطلب علمًا، أو يحقق مقصدًا شريفًا، ولا يعتذر بأن الوقت قد فات، فليست هذه علةً لمن جدّ وأعانه الله، وليكن لسان حاله كما قال الأول:
عمري بروحي لا بعدِّ سنيني فلأسخرنَّ غدًا من التسعينِ
عمري إلى الخمسين يجري مسرعًا والروحُ واقفةٌ على العشرينِ
3- أن من المعروف الذي يغفل عنه بعض الناس الكلمةَ الطيبة؛ فإن الكلمة الطيبة صدقة؛ فانظر إلى هذا العالم الذي كان منهمكًا في صناعة الأقفال كيف أن كلمة واحدة من أحد أصحابه كانت سببًا بعد الله في انصرافه للعلم والإمامة فيه، فلا تعجبوا إذا علمتم أن السبب الشهير لتأليف صحيح البخاري هي كلمة شيخِه إسحاقَ بن راهويه حين قال: (لو أن أحدكم يجمع كتابًا فيما صحّ من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم) قال البخاري: (فوقع ذلك في نفسي) فألّف كتابه الصحيح الذي هو أصحّ كتاب على وجه الأرض بعد كتاب الله.
ولا تعجبوا إذا علمتم أن إمام المحدثين في زمانه الحافظَ الذهبي كان سبب انصرافه لعلم الحديث هي كلمةٌ صدرت من شيخه البرزالي، يقول الذهبي رحمه الله عن شيخه البرزالي: (هو الذي حبّب إليّ طلب الحديث، فإنه رأى خطي، فقال: خطك يشبه خطّ المحدثين! فأثّر قوله فيّ).
فلا يحتقر أحدنا كلمة يبذلها لأخيه؛ تحمل دلالة على خير، أو نهيًا عن شر، أو ثناء صادقًا على فِعلة قام بها؛ فربما أن الله أجرى خيرًا كثيرًا من جراء هذه الكلمة، فكم عالمٍ ظهر بسبب كلمة، وكم كتابٍ أُلّف بسبب كلمة، وكم مشروعٍ نافع قام بسبب كلمة، والله الموفق الهادي من يشاء إلى صراط مستقيم.
http://islamtoday.net/nawafeth/artshow-43-156472.htm
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق