الصفحات

الخميس، سبتمبر 29

فوائد من مجالس شيخنا العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله

فوائد من مجالس شيخنا العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله


تالله تفتأ تذكر الشيخ بكراً.. 
نعم، ومالي لا أذكره، و﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 86] من فقده.. 
أمة يموت فيها العالم ثم لا يخلفه فيها غيره؛ ليست تسير على سواء من أمرها.. 
وإن كان عزاء؛ فإنما هو في أن هذا الموت يحيا به أقوام، وليس أحد أحق بأن يكون له من معنى موته حياة دونها الحياة؛ كعالم رباني.. 
لن أترجم للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد - رحمه الله - في هذا المدخل فما كتبت لهذا، لكني سأتحسس بقلمي "شيئاً يسيراً" من مكامن شخصيته.. على أني أحاذر من أمرين لا يكاد يسلم منهما من يكتب عمن يعرف من الأعلام:

1- أحاذر - ما استطعت - أن أجعل كتابتي عن الشيخ ذريعة للحديث عن نفسي.

2- ثم أحاذر - ثانية - أن أصف الشيخ بسبعة عشر وصفاً تصلح كلها لكل عالم، ثم لا ترى فيها واحداً منهم.



إن سيرة بعض العلماء مخجلة!

ألق ديناراً في غيابة تاريخ من تواريخنا؛ ثم ابتعد وانظر كم عمامة تسقط عليه؟



حين تتبين هذا تعرف قدر الشيخ يوم قال لي مرة. حضر عندي قبل أيام أحد كبار الناشرين.. ثم ذكر الشيخ كلاماً قال في آخره: يريدون أن يجعلوا مني مطية لدنياهم، هيهات...



كان الشيخ في عينيه قدح من ذكاء الفطرة، يخيل إلي معه أن لو نشأ نشأة مدنية لعد في دهاة أهل السياسة.



الغيرة حلية جبل الشيخ عليها، ومن لا غيرة عنده لا فضيلة فيه، هو غيور على دين الله أن يجترأ عليه، غيور على عقيدة السلف أن تمس، غيور على محارم المسلمين أن ينال منها، غيور على هذا العلم أن يتسوره من ليس من أهله.



كان مهاباً لا يجسر محدثه على أن يحدق إليه، فإذا أنس بمحدثه تبسط له، فربما رأيته تهزه النادرة فيضحك لها حتى يكاد يخرج عن وقاره.



تملكه معنى العالم وصيانة العلم، وإنك لتستطيع - غير غالط - أن ترد أكثر ما كان فيه الشيخ من نأي عن مخالطة الناس، وبعد عن غشيان محافل العامة إلى شيء من هذا.. بل ربما أسرف فيه - رحمه الله - فخرج به إلى بعض ما تنكره نفس من لقيه أول مرة.. وما به إلا هذا المعنى: "رأى بعض أهل العلم أذال علمه؛ فمقت نفسه أن يراها في صورته".



لا أذكر أن أحداً ممن عرفت من أهل العلم؛ تشده الفاردة اللطيفة، وتستهويه الشاردة الفاذة؛ ما رأيت منه، نعم.. ومن شيخنا العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ أمد الله في عمره على الخير.



ذكرت للشيخ بكر مرة أن كرد علي قال في مذكراته:"ابن تيمية للإسلام كمارتن لوثر للنصرانية"؛ فدهش.. واستعاد الكلمة مني، ثم أخذ وجهه يتهلل في جلال من ألق آخذ لم أره في وجه فاتر الذهن قط.



قال ابن حزم: "لذة العالم بعلمه".



جمعتني بالشيخ عدة مجالس في بيته، ودارت بيننا أحاديث كثيرة عن العلم وأهله.. لم أكن من خاصة تلاميذه، ولا من خلص أصفيائه، وإنما كنت - ولا أزال - طويلب علم صغيراً أنس به الشيخ لشيء رآه فيه، ثم إن هذا الطويلب عاد فأخلف ظن الأستاذ.. فيالله ماذا الأيام وما الذي تصنعه مآلات الأمور بنا؟



كنت ألقاه في الشهرين والثلاثة مرة أو نحوها مدة أربع سنوات، فلما مرض - رحمه الله - انقطعت أسبابي عن أسبابه فما رأيته قبل وفاته بثماني سنين.



وهذا الذي أذكره هنا "شيء" من فوائد تلك المجالس، ما كنت عقلت منه حرفاً في حياة الشيخ..



لكن كتبته في هذه الأيام ضناً به على الأيام أن تطويه.. ولأن العقاد كان يقول: "الذاكرة ملكة مستبدة، تحفظ وتنسى على غير قانون ثابت"؛ فما في هذه الفوائد مما يلوح أنه على غير وجهه فالشيخ بريء منه، وإنما تبعته على هذه الملكة المستبدة، وإن شئت فقل: أو على صاحبها.



ثم إني سقت هذه الفوائد هكذا عفو الخاطر كيف اتفق، فلم أرتبها على بابات العلم بابة بابة.. ليكون أروح لنفس قارئها، ولم أعلق على ما ورد فيها إلا يسيراً، حتى تكون أدخل في فطرة العلم منها في صنعته، إذ كانت تلك المجالس مع الشيخ على هذا المثال:

1- قال لي الشيخ - رحمه الله - ما ندمت على شيء في شبابي ندمي على كتابين فرطت فيهما:

أ- كتاب الزهد للإمام أحمد رحمه الله - كنت في مكة فمررت في طريقي على كتبي فإذا به قد عرض نسخاً من كتاب الزهد هذا طبع الهند، وكان إذ ذاك نادراً.. فسألته عن ثمنه فكأن الثمن كان مرتفعاً فتركته، فقال لي الكتبي: خذ نسخة منه ولا تتركه فهو نادر وستندم على تركه فإنما وجدناه في أحد المستودعات، قال الشيخ: فلم آخذ نسخة منه..



وذهبت بعد كلامه هذا مباشرة لزيارة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - وقد كان يعرف محبتي للكتب ويسألني عما رأيته منها في المكتبات - فأخبرته عن كتاب الزهد فقال: وما اشتريت منه شيئاً؟



فقلت: لا، فقال: سبحان الله، كتاب الزهد للإمام أحمد تركته وما اشتريت منه شيئاً، هذا عجيب، قال الشيخ: فأحسست عندها بتفريطي، فقال لي سماحة الشيخ: اذهب الآن إلى الكتبي واشتر منه الكمية كلها، قال فنـزلت مسرعاً، فلما وافيت الكتبي لم أر عنده نسخة واحدة، فسألته: أين كتاب الزهد؟ فقال: بعته كله ولم يبق منه شيء وعاتبني قائلاً: ألم أقل لك خذ نسخة منه فهو نادر.



قال الشيخ: لم يكن بين تركي له في المرة الأولى وعودتي إليه إلا زمن يسير باع فيه الكتاب كله، وندمت على فوات هذا الكتاب ندماً شديداً، ثم إن الكتاب طبع بعد ذلك وكثرت نسخة بأيدي طلبة العلم.



ب- قال الشيخ: وأما الكتاب الثاني: فكتاب غرائب الاغتراب رحلة الألوسي المفسر.. رأيته في شبابي عند بعض الكتبيين أخرجه من خزانة خاصة في المتجر، وقلبته فسألته عن ثمنه فإذا به قد بالغ فيه جداً، قال الكتبي: خذه فهو نادر ولعلك لا تجده بعد هذه المرة، فطلبت منه خفض ثمنه بعض الشيء فلم يوافق فتركته.. ثم إني لم أجده بعدها ولم أره في يوم من أيام حياتي على كثرة ما رأيت من الكتب..



قال الشيخ: حتى إني حين قلبت الكتاب عند المكتبي علقت في ذهني مسألة من مسائله، فذكرتها في أحد كتبي وأحلت إلى الكتاب دون ذكر الصفحة هكذا من الذاكرة.



قلت: رأيت في مرض الشيخ - رحمه الله - نسخة من هذا الكتاب، هي نسخة جمال الدين القاسمي، وعليها تعليق بخطه في نصف صفحة فيه: إن الشيخ زكريا الأنصاري كان إذا مرض استشفى بمطالعة كتب أهل العلم!



2- قال الشيخ: لا أحب الإطالة في النـزهة، وليس من عادتي الخروج إلى الصحراء وقت الربيع إلا في القليل.. وإذا خرجت فلتناول الغذاء ونحوه، ثم أعود.



3- قلت للشيخ: سمعت من عالم الجزيرة الشيخ حمد الجاسر أن بعض علماء شقراء رأى تلميذاً له قد أقبل وعليه خاتم، فقال يمازحه:

ألا قل لبعض الناس مثل محمد
متى كان دين الله لبس الخواتم



ثم إن الشيخ ابن سحمان بلغه هذا البيت فرد عليه بقصيدة يسفه فيها قائله ويذكر أن لبس الخاتم سنة..



قلت للشيخ: قرأت أن سماحة الشيخ ابن باز يرى أن لبس الخاتم ليس بسنة، فقال: نعم، ليس لبسه سنة.



4- قال الشيخ: أكثرت في الآونة الأخيرة من كتابة المقدمات لطلبة العلم، أكثرت وليس للعالم أن يبتذل قلمه هكذا، لا بد للعالم من أن يصون قلمه، لا بد للعالم من أن يصون قلمه..



فقلت له: إن العقاد قلّما قدم كتاباً، لكنه إن قدم كتاباً فإنه لا يذكر صاحب الكتاب بكلمة في الغالب، وإنما يتكلم على موضوع الكتاب ويطيل ويستدرك، لذا ربما كانت مقدمته أعلى قيمة من الكتاب فأضرت بمؤلفه، فابتسم الشيخ وقال: والله جيد.



5- قال الشيخ: يؤلمني ويعصر قلبي حين أرى بعض كتابنا - وأشد ما يؤذيني حين أسمع خطيباً على المنبر - يكثر من الاستشهاد بأقوال الغربيين في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم أو الثناء على الإسلام، بلغنا من الهون أن احتاج دين الله إلى أقوال هؤلاء نثني بها عليه.. نعم، تذكر مثل هذه الأقوال لكن في أضيق الحدود.



6- قال الشيخ: زرت مع بعض الرفاق - أظنه قال وقت الشباب - أحد علماء الشناقطة في المدينة، فلما دخلنا عليه وجدناه مضطجعاً وقد جعل تجاه الجدار، وكنا نسأله ويجيبنا وهو على هذه الحالة!



قال: فلما طال بنا المجلس التفت إلينا وقال لي: أسئلتك هذه أسئلة رجل من أهل العلم.



7- قال الشيخ: هل ضاق دين الله حتى لا يبدأ المسلم الطواف إلا بوجود هذا الخط..



8- قال الشيخ: كان يكتب في الأعداد الأولى من مجلة مجمع اللغة العربية بمصر فحول الكتاب، انتفعت بكتاباتهم كثيراً، لا يوجد مثلهم في مجالات المجامع الأخرى، ولا في هذه المجلة نفسها بعد ذلك.



9- قال الشيخ: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - هي أعظم عمل علمي تفاخر به بلادنا.



10- قال الشيخ: قرأت في كتاب بلوغ الأرب لمحمود شكري الألوسي كلاماً يقع في صفحة كاملة استكثرته على متأخر.. فتبين لي بعد ذلك أنه نقله بتمامه من مقدمة ابن خلدون دون أن يشير إلى ذلك.



قلت: أفاد الألوسي في أحد كتبه من كتاب لأحمد فارس الشدياق كثيراً، لكنه لم يشر له في موضع واحد.



11- قال الشيخ: لما زرت الأردن سألني طلبة العلم هناك عن الشيخ الألباني، فقلت لهم: هو صاحب فن، فسرهم جوابي، فقالوا: والشيخ محمد الأمين الشنقيطي؟ قال: فقلت لهم: هو صاحب فنون!



12- قال لي الشيخ في ليلة من الليالي: لو رأيتني البارحة في هذا المجلس وأشار - رحمه الله - إلى مجلس مجاور.. قال: لو رأيتني وأنا أقرأ سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ وقد غلبني البكاء لشدة ما أثرت فيّ حياة هذا الشيخ..



ثم قال: هذه هي الحياة، أين نحن منهم.



قلت للشيخ: قرأت في أحد الكتب التي ألفت عن الشاعر أحمد شوقي؛ أنه كان يعجب من قلة ذكر شعراء العرب للنخلة في شعرهم..



فقال الشيخ: العرب كانت ترى أن من العيب غرس النخل وتربية البقر، ولا زال هذا في الأعراب إلى يومنا هذا، قال: وقد سمعت من شيخنا محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - بيتاً من الشعر ينشده لأحد الشعراء يمدح فيه قوماً يقول فيه:

لا يغرسون فسيل النخل حولهم
ولا تخاور في مشتاهم البقر



قلت: هذا البيت في جملة أبيات للعباس بن مرداس السلمي يمدح بها قومه، سمعت الشيخ الشنقيطي ينشدها في أحد الأشرطة المسجلة من مجالسه في التفسير.



13- قال الشيخ: لما ألفت كتابي طبقات النسابين انتشر في العراق انتشاراً عجيباً لم ينتشر مثله في بلد آخر.



قلت للشيخ: إن الحافظ السيوطي ثار به صوفية الخانقاه التي كان يتولى نظارتها لأنه قال: إنكم لستم على شرط الواقف، فثاروا به وحملوه وألقوه في فسقية الماء بجبته وعمامته.. ذكر ذلك تلميذه ابن إياس في بدائع الزهور، وأنه خرج من الماء وأصلح ثيابه ثم توجه إلى روضة المقياس فسكن هناك، وأغلق النافذة التي تجاه النيل، وألف كتابه تأخير الظلامة إلى يوم القيامة، وانقطع بعدها هناك إلى التأليف حتى وفاته.



14- فقال الشيخ ما معناه: ليتني أستطيع أن أنقطع إلى العلم لا يشغلني عنه شيء.



15- قال الشيخ: المغاربة لهم أنظار ومدارك في العلم ليست عندنا نحن المشارقة.



16- قال الشيخ: لو كتبت اسم شيخ الإسلام ابن تيمية على ورقة بيضاء لاشتراها الناس..



17- وسألته: هل ذكر شيخ الإسلام في شيء من كتبه أنه عربي النسب؟ فقال: لا أعرف هذا، ما أبعد شيخ الإسلام عن ذكر مثل هذه الأمور!



قال: لكنه عربي من بني نمير.. قلت: وابن القيم؟



قال: لا، لم يكن ذا أصل عربي.



18- قلت للشيخ: حين زرت الدكتور محمود الطناحي في مصر؛ أخبرته أنكم ذكرتم في بعض كتبكم أن الزركلي لم يترجم في أعلامه لأحد من سلاطين آل عثمان لعصبيته العربية، وأنكم لم تروا من نبه على هذا قبلكم، وأن الطناحي قال لي: سلم على الشيخ بكر وقل له: بلى، نبه عليه أحد الكتاب، ثم قال وأحضر كتابه وأراني الموضع، وهو كان طبع قبل الكتاب الذي ذكرتم فيه ما ذكرتم، فقال الشيخ وكأنه ضاق صدره بعض الشيء: والله ما قرأت هذه المعلومة لأحد، وإنما هو شيء توصلت إليه ابتداء.



قلت: ليس كل سلاطين آل عثمان على شرط الزركلي..



19- قال الشيخ: كان أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة يكتب بالفرجار والمسطرة.. وكان الشيخ معجباً بأسلوبه.



قال: له مقدمات للرسالة من أرقى الكتابات، إذا أردت أن تعرف قيمتها فاقرأ المقدمات التي يكتبها غيره للرسالة في بعض الأحيان.



قال الشيخ: ألقيت كلمة في أحد المحافل أفدت فيها من بعض مقدمات الزيات هذه.



20- قال الشيخ: رحمه الله -: قال لي سماحة الشيخ عبد الله بن حميد - رحمه الله - لما رأي توافري على دراسة تراث ابن القيم: "ما أظن إلا أن الله - سبحانه - قد ادخر لك هذا الخير حين صرف كثيراً من أهل العلم عن خدمة علمه وهيأ ذلك لك".



للوراق المشهور في وقته زكي مجاهد - رحمه الله - مؤلف عرف به عنوانه الأعلام الشرقية هو متداول بين القراء..



لكن له مؤلف آخر قلت نسخه بين أهل العلم فهو يعد في نوادر المكتبة العربية عنوانه الأخبار التاريخية في السيرة الزكية، ذكر فيه طرفاً من ترجمته، وتاريخ عائلته، وأسفاره، ومن لقيه من الأعلام..



جاء في الصفحة الثانية والخمسين منه هذا النص: "الرحلة الحجازية: وهي رحلة العمرة في مكة المكرمة وزيارة المدينة المنورة.. سافرت على بركة الله من منـزلي بشارع نجيب شنودة شبرا مصر القاهرة في شهر رمضان المبارك سنة 1392هـ 1972م.. وصلنا بالسلامة المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.. وفي ثاني يوم ذهبت إلى المحكمة الشرعية بجوار المسجد النبوي لزيارة قاضي المدينة الأستاذ بكر أبو زيد، وهو شاب عالم جليل واسع الإطلاع، ومن المشتغلين بالعلم وجمع كتب الحديث النبوي والدينية [كذا]، وكان زارني في مكتبتي بالقاهرة، وسلمت عليه وأهديته الجزء الرابع من كتابي الأعلام الشرقية".



أشعرت كيف غدا الأستاذ الشاب - بعد ذلك - الشيخ العلامة..

بقلم عبدالله بن عبدالعزيز الهدلق
المصدر: من كتاب: "ميراث الصمت والملكوت"، لعبدالله بن عبدالعزيز الهدلق


http://www.alukah.net/Sharia/0/35009/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق