الصفحات

الثلاثاء، سبتمبر 6

ورحل الشيخ محمد الموسى ـ رحمه الله ـ

ورحل الشيخ محمد الموسى ـ رحمه الله ـ


الحمد لله لا راد لقضائه، فقد فجع الناس صبيحة يوم الخميس 3/10/1432هـ بخبر وفاة فضيلة الشيخ : محمد بن موسى الموسى مدير مكتب بيت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وذلك إثر حادث وقع للشيخ ليلة الخميس، فتوفي في الحال، رحمه الله رحمة واسعة.
وهكذا الدنيا حَلٌّ وارتحال، واجتماع وافتراق، ويوم لك ويوم عليك، ويوم تساء، ويوم تسر، ومن عاش فيها فلا بد أن يرى في عيشه ما يصفو وما يتكدر .
على ذا مضى الناس اجتماعٌ وفـرقـةٌ
وميْتٌ ومـولـودٌ وقـالٍ ووامـقُ
لكن مما يخفف الألم ، ويبعث السرور ، أن الخاتمة كانت على طاعة الله ، فالحمدلله على قدر الله، فقد عمل الشيخ في يوم موته أعمالاً صالحات، فقد جاء إلى محافظة الزلفي مساء ثاني أيام العيد، فسلم على إخوته وأخواته، ثم قصد إلى ابن أخيه الشيخ محمد بن عبد الله الموسى، فصلى معه العشاء، وأعطاه مبلغاً طيباً من المال، وقال له : ضعه في الفقراء والمحاويج، ثم مضى وإياه إلى اجتماع عائلة الطوالة، وكان له موعد معهم؛ ليلقي عندهم محاضرة، فجاء وألقى محاضرة عن سيرة الشيخ ابن باز، تحدث فيها عن شيخه وحِبه، فأفاض في الحديث عنه قرابة الساعة، وحدثني من كان حاضراً، أن الناس أثناء كلمته، كأن على رؤوسهم الطير، حتى أن الأطفال تركوا ما بأيديهم من ألعاب، وجاءوا يستمعون، ثم بعدها ذهب إلى اجتماع عائلته عائلةِ الموسى، ثم بعدها ودعهم، ومضى قافلاً إلى الرياض مع ابنيه، وفي الطريق حصل له الحادث ـ رحمه الله ـ.
فهذه أعمال صالحات كانت قبيل موته، رحم موصولة، وصدقة مبذولة، وكلمة طيبة مقبولة، فهنيئاً للشيخ هذه الخاتمة الحسنة، وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (إذا أراد الله ـ عز وجل ـ بعبد خيراً عسله ) قيل : وما عسله ؟ قال : ( يفتح الله ـ عز وجل ـ له عملاً صالحاً قبل موته، ثم يقبضه عليه) أخرجه أحمد.
وقد تأثر الناس بموته، وكانت جنازته مشهودة، وكلٌ من الناس يعزي الآخر بفقده، فقد كان وقع الخبر عليهم شديداً.
            وقد اتصل كبار العلماء والمسؤولين على أبناءه يعزونهم فيه، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان، ومفتي عام المملكة وغيرهم.
لقد ذهب الشيخ محمد الموسى، وهو يُشيَّع بجمال الخلال، وحميد الصفات، ويُذيَّل بمحمود المآثر، والطيِّب من الذكر، فهنيئاً له ذلك ، فقد أخرج البخاري ومسلم، من حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض).
وقد رئيت فيه مراءٍ صالحة، قبيل موته، وبعد موته.
ولقد من الله على أهله وأبناءه وإخوانه وأخواته، فجاءتهم سكينة وثبات أثناء الجلوس للتعزية، فيرجى أن يكون لهم نصيبٌ من قوله تعالى : [...وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ...]الآية. {التغابن:11} قال علقمة : ( هو الرجل تصيبه المصيبة ، فيعلم أنها من عند الله ، فيرضى ويسلم).
وقرأ عكرمة ، وعمرو بن دينار ، ومالك بن دينار : ( يَهْدأْ قَلْبُه ) أي يسكن ويطمئن، ولا يكون فيه اضطراب .
لقد عرفت الشيخ محمداً منذ نعومة أظفاري، في أول من عرفت من الرجال، فقد كان صاحب والدي الأول، ونديمه المفضل، والصغير يعرف من أصحاب والده وينكر؛ لكن الشيخ محمداً ممن يحبه الصغير قبل الكبير، فقد كان سهل الأخلاق ،  أريحي الطباع ، لطيف المعاشرة، حسن الكلام، جيد الاستماع، ذا تواضع جم فقد كنت أتحين مجيئه، وأهتبل حضوره، فقد كان لا يقدم قدمةً إلى الزلفي إلا ويمر فيها على والدي، فلا أكاد أغادره حتى يرحل من نفسه، تاركاً ما بيدي من شغل.
وأذكر ـ مرة ـ أنه أتى إلى والدي عصر أحد أيام الاختبارات في الكلية، وكان عندي في الغد اختبارٌ في مادة التفسير، وكان المنهج طويلاً، فكنت في حيرة من أمري، هل أحضر عنده، أم أدرس مادتي، فعزمت أمري أن أحضر عنده، فأفلحت وأنجحت، والحمد لربي.
ولا أنسى أول مرة رأيت فيها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، فقد كان الفضل له فيها بعد الله، وكنت وقتها في السادسة عشر من عمري، وكانت وقت الحج، وكان الناس قد أطافوا بالشيخ يسألونه، فيجيبهم، فرآني الشيخ محمد، وعرض عليَّ السلام على الشيخ، فكدت أطير فرحاً، فلما انفض الناس ناداني الشيخ محمد، وأدخلني على الشيخ في خيمته، فما راعني إلا الشيخ أمامي حاسر الرأس ، فأخذ يسأل عن حالي ودراستي، ويسأل عن والدي، فكنت أجيب بالكلمة بعد الكلمة؛ هيبةً للموقف، فلا أنسى هذا الموقف للشيخ محمد ـ رحمه الله ـ .   
لقد وفق الله الشيخ محمداً، فطلبه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز؛ بتاريخ12/6/1404هـ، ليعمل مديراً لمكتب بيته، وعمل به إلى أن توفي سماحة الشيخ في27/1/1427هـ ، فلازم الشيخ ومازجه، وصار من أهل الحظوة عنده، وكان الشيخ يأنس به، وينبسط إليه، فأفاد من علم الشيخ، وأخذ من هديه ودلِّه، فكان يُشَبَّه بالشيخ في سماحته وأخلاقه.
وقد روى في سيرة شيخه ابن باز كتاباً يعد من أمتع وأنفع ما كتب عن الشيخ، وقد جمَّل الكتاب وحسَّنه صياغة شيخنا الأديب محمد بن إبراهيم الحمد، فاضرب بسهمك فيه يا طالب سيرة الشيخ، فهذا مغتسل بارد وشراب. 
وقد كان الشيخ ابن باز عنده ملء السمع والبصر، يقبضه ما يقبضه، ويبسطه ما يبسطه؛ ولذا فقد كان فقْدُ الشيخ ابن باز على الشيخ محمد شديداً أليماً، فقد كان محزون الصدر، مشغول القلب، تذرف عينه دمعاً عند ذكره، وتخنقه العبرة أحياناً بأحاديثه إلى قبيل وفاته.   
وكان إذا تحدث عن شيخه ابن باز لطيف النادرة، غزير المادة، فحديثه السحر الحلال، العذب الزلال، فهو ينثر من عبق شيخه طيباً وريحاناً، عن اليمين والشمائل، على ما قال ابن الرومي:
وحديثها السحر الحلال لو انَّه                           لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يُملل وإن هي أوجزت                      ودّ المحدَّثُ أنها لم توجز
وكان ـ رحمه الله ـ مهذب اللفظ ، مليح النكتة ، هادئ النبرة، لا أذكر أني سمعت منه كلمة تسوء، طيلة اختلاطي به .
وكان حريصاً على نفع الناس بما يستطيع، سواءً بماله أو جاهه، يرتاح للندى، ويخف للمعروف، وقد حصل من طريقه تفريج كربات، وبذل شفاعات، ودعم جهات خيرية، وبناء مؤسسات وقفية.
هذه نفثة مصدور ، ونزرٌ يسير في حق شيخنا ـ رحمه الله ـ .
فاللهم ارحم الشيخ ، وارفع درجته في المهديين ، واجمعه بشيخه ابن باز، واخلفه في عقبه في الغابرين ، واغفر لنا وله أجمعين . 

د. صالح بن فريح البهلال
8/10/1432هـ


هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

الله يرحمممممممممه. .......

إرسال تعليق