الخصوصية العيدية
الحمدلله وبعد،،
من الأمور التي شدتني كثيراً في السنة النبوية حساسية النبي –صلى الله عليه وسلم- لموضوع (أعياد الكفار)، حيث ظهر اهتمام النبي–صلى الله عليه وسلم- في أكثر من حادثة بقضية عدم مشاركة الكفار في أعيادهم، في أكثر من قضية يستحضر النبي –صلى الله عليه وسلم- بشكل لافت هذه المفاصلة مع الكفار في أعيادهم، ويركز النبي –صلى الله عليه وسلم- على تعميق التفرد الإسلامي في فعاليات العيد.
لنضع سوياً هذه الوقائع النبوية الأربع تحت عدسة البحث، ثم لنحاول استخلاص المعنى الكلي فيها:
-الواقعة الأولى: لما جاء النبي –صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وجدهم ولهم يومان يلعبون فيهما، ويمارسون احتفالاً اجتماعياً، لم يجعل النبي –صلى الله عليه وسلم- الموضوع يمر بشكل عابر، بل سألهم عن دوافع هذا الاحتفال فقال لهم النبي (ما هذان اليومان؟) فقالوا (كنا نلعب فيهما في الجاهلية) فلم يقل النبي لا بأس، الأهم أن لا يقع في الاحتفال منكر، لا، بل أوقف هذا الاحتفال وهم في خضم فعالياته، وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر) [رواه أهل السنن وصححه الأئمة، وهو حديث مشهور].
-الواقعة الثانية: أن رجلاً من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- نذر أن ينحر إبلاً في موضع في الحجاز يقال له (بوانة) فجاء يستفتي النبي –صلى الله عليه وسلم- فسأله النبي عن عدة أسئلة كإجراء احترازي للإباحة، وكان منها أن سأله النبي قبل أن يفتيه بالجواز بهذا السؤال (هل كان فيها –أي في بوانة- عيد من أعيادهم-أي الكفار- ؟) فقال الرجل: لا. فقال له النبي (أوف بنذرك). [رواه أهل السنة، وصححه الأئمة، وهو حديث مشهور].
-الواقعة الثالثة: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- في أثناء أحد الفعاليات العيدية الإسلامية أطلق حكماً كلياً عاماً يكرس الخصوصية العيدية فقال (إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا)[البخاري:952].
-الواقعة الرابعة: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أشار مرةً إلى أيام المناسك فحاول استحضار الخصوصية العيدية من جديد فقال (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق؛ عيدنا أهل الإسلام)[رواه أهل السنن].
حسناً .. دعنا نحاول استخلاص المعنى الكلي في هذه الوقائع النبوية الأربع، لا أظنك تخالفني على الاندهاش من شدة استحضار النبي –صلى الله عليه وسلم- لقضية (الخصوصية العيدية)، وأن موضوع العيد لم يكن في التصور الشرعي الذي يقدمه النبي –صلى الله عليه وسلم- مجرد شأن اجتماعي لا صلة للدين به، بل كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يسلط الضوء على القضية بطرق مختلفة، فمرةً يقول لهم وهم يحتفلون أبدلكم الله خيرا منها، حتى أن هذين العيدين الجاهليين اليثربيين ماتا كما يذكر المؤرخون، وقد طرح ابن تيمية تحليلاً تاريخياً بديعاً حول سر اختفاء هذين العيدين الجاهليين؟ يقول ابن تيمية:
(فإن ذينك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام، فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا عهد خلفائه، ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما ونحوه مما كانوا يفعلونه، لكانوا قد بقوا على العادة، إذ العادات لا تغير إلا بمغير يزيلها، لا سيما وطباع النساء والصبيان وكثير من الناس متشوفة إلى اليوم الذي يتخذونه عيدا للبطالة واللعب، ولهذا قد يعجز كثير من الملوك والرؤساء عن نقل الناس عن عاداتهم في أعيادهم؛ لقوة مقتضيها من نفوسهم، وتوفر همم الجماهير على اتخاذها، فلولا قوة المانع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكانت باقية، ولو على وجه ضعيف، فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتا)[الاقتضاء: 1/488].
ومرةً يحترز النبي –صلى الله عليه وسلم- قبل الفتيا بإباحة النذر بالسؤال عن الموضع هل كان فيه عيد جاهلي ما؟ يا ألله .. كل ذلك لغرس المفاصلة العيدية، وينبه الصحابي الناذر على أنه لا وفاء لنذر في معصية الله، بمعنى أنه لو كان في الموضع عيد جاهلي لما جاز النذر!
ومرةً يطلق النبي شعار الخصوصية العيدية الإسلامية (لكل قوم عيد، وهذا عيدنا) ويقول في حادثة مشابهة (عيدنا أهل الإسلام) وهي لغة افتراق واضحة في موضوع العيد، وأنه ليس شأناً مدنياً يشترك الناس فيه، بل هو من الخصوصيات الشعائرية الدينية التي تتمايز فيها الأمم.
هذه الوقائع النبوية الأربعة أثّرت في فقه الصحابة والتابعين وأتباعهم، ومن بعدهم، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه- قال (اجتنبوا أعداء الله في عيدهم)[البيهقي:18862]
بل إن عمر بن الخطاب في الشروط العمرية الشهيرة اشترط على أهل الذمة أن لا يظهروا أعيادهم في دار المسلمين، وكانت أعيادهم هما الباعوث والشعانين، جاء في شروط عمر على أهل الذمة: (وألا نخرج باعوثا -قال والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر - ولا شعانين)[أحكام أهل الذمة:1159].
بل إن ابن عباس، وخمسة من التابعين معه (وهم: ابن سيرين، وابو العالية، وطاوس، والضحاك، والربيع بن أنس) استنبطوا من قوله تعالى (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)[الفرقان:72] أنه يدخل فيه (أعياد الكفار) كما نقل ذلك أهل التفسير بالمأثور، باعتبار أن عيد الكفار "زور" فلا يجوز شهوده!
ثم انتقل هذا المعنى الشرعي، وهو (الخصوصية العيدية) إلى فقه الأئمة الأربعة، وقد جمع كثيرٌ من أهل العلم كلام المذاهب الأربعة في ذلك، يقول ابن القيم (وكما أنهم لا يجوز لهم إظهار عيدهم، فلا يجوز للمسلمين ممالأتهم عليه، ولا مساعدتهم، ولا الحضور معهم؛ باتفاق أهل العلم الذين هم أهله، وقد صرح به الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة في كتبهم..)[أحكام أهل الذمة:1245].
ثم ساق ابن القيم نماذج من فقه المذاهب الأربعة في منع مشاركة الكفار أعيادهم، فيمكن لمن أراد التزود باقتباسات فقهية مذهبية مراجعتها.
ولكن، ثمة تساؤل يعترضنا هاهنا، وهو في غاية الوجاهة، السؤال بكل اختصار: أننا نعرف أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أبدى تسامحاً ومرونة مذهلة في الانتفاع بمنسوجات وأواني وأسلحة ومساكن ومصنوعات الكفار، بل أبقى النبي –صلى الله عليه وسلم- كثيراً من الأوضاع الاجتماعية الجاهلية ولم يغيرها، فلماذا يا ترى أبدى النبي –صلى الله عليه وسلم- هذا التدقيق والاستيقاف في موضوع (أعياد الكفار)؟ لماذا لم يعامل النبي –صلى الله عليه وسلم- أعياد الكفار كما عامل بقية شؤونهم الاجتماعية الأخرى التي تسامح معها؟
هذا السؤال هو الذي يقودنا إلى المفهوم الفقهي العميق لهذه القضية، هذا السؤال هو الجسر الذي ينتهي بجوهر الموضوع، فمن وضع هذه الأحاديث النبوية على طاولة البحث ثم طرح هذا السؤال على نفسه؛ انتهى حتماً إلى صلب الإشكالية.
والجواب بكل اختصار أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يتسامح مع أعياد الكفار كما تسامح مع كثير من شؤونهم الاجتماعية؛ لأن (العيد) في التصور الشرعي ليس شأناً (اجتماعياً) بل (شعيرة)، ولا يجوز مشاركة الكفار في شعائرهم، وهذا المعنى هو الذي عبر عنه ابن تيمية في لغة فقهية هندسها ببراعة مذهلة، تأمل معي بالله عليك هذا التحليل الذي يستخلصه ابن تيمية من الأحاديث السابقة، حيث يقول:
(وأما الاعتبار في مسألة العيد فمن وجوه: أحدها: أن "الأعياد من جملة الشرائع والمناهج والمناسك" التي قال الله "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ" كالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكف وأظهر شعائره، ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه)[الاقتضاء:528].
الفكرة الفقهية المبدعة هاهنا هي قول ابن تيمية أن "العيد من جملة الشرائع والمناسك"، بمعنى أن العيد ليس كالترتيبات الاجتماعية المحضة، بل هو كالطواف والرمي والصلاة واللحية ونحوها من الشعائر.
وهذا يعني أنه لو جاء شخص وقال: ولكن عيد الكرسمس -مثلاً- خرج عن كونه (عيد ديني) إلى كونه (عيد اجتماعي) لكان الجواب أن العيد بحد ذاته "شعيرة" بغض النظر عن نية فاعله، فلو جاء شخص غربي يضع قلادة صليب، لا عن ديانة، وإنما تجمل –وما أكثر هذا في الغرب- لم يجز موافقته في ذلك، لأن الصليب بحد ذاته شعار ديني، وهكذا لو جاءنا شخص ياباني يحتفل في أحد معابدهم الوثنية بالطواف كفعالية اجتماعية، لا عن تعبد –وما أكثر ذلك- لم يجز موافقته في ذلك، لأن هذا الطواف في المعبد بحد ذاته عبادة، بغض النظر عن قصد فاعله، وهكذا لو جاءنا شخص هندي يمارس طقوساً اجتماعية لأوثانهم لما جاز مشاركته في ذلك، حتى لو كانت جزءاً من التقاليد الاجتماعية.
حسناً .. إذا كان العيد (شعيرة) فهذا يعني أن من يهنيء كافراً على عيده فكأنما يهنئه على شعيرة معينة، ولذلك قال ابن القيم:
(وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثما عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحو، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه)[أحكام أهل الذمة: 441].
رغم وضوح هذه القضية في النصوص الشرعية، وكثرة من يبينها من أهل العلم والدعوة في كل مناسبة، وهو أن (العيد بذاته شعيرة) وأن مشاركة الكفار وتهنئتهم بعيدهم، كتهنئتهم ببقية شعائرهم، ومع ذلك كله؛ فإننا نجد بعض الشباب المسلم يتقصد تهنئة الكفار بأعيادهم علناً، فما تفسير ذلك؟
الواقع أنني تأملت في بعض الشخصيات التي تفعل ذلك، فتبين لي أن كثيراً منهم يفعل ذلك لدوافع "نفسية" بحتة، بمعنى أنه لا يجهل تدقيق واهتمام النبي –صلى الله عليه وسلم- بمسألة أعياد الكفار، وحرص النبي على مباينتهم فيها، وإنما يشعر بدوافع نفسية خفية لأن يخالف في هذه المسألة كعنوان على حداثة تفكيره، وأنه غير خاضع لهيمنة الخطاب الشرعي، ثمة ما يدفعه لتأكيد التحرر.
بعض من يجاهر بتهنئة الكفار على شعائر الكفر يفكر بدعاة أهل السنة أكثر من تفكيره بالكافر الذي يتلقى تهنئته! إنها أقرب لكونها "تهنئة نكاية بالمخالف السلفي" أكثر من كونها "تهنئة علاقة حميمة مع أحد الكفار"!
وهذه الظاهرة مؤلمة حقاً، وهي تتكرر تاريخياً، وقد أشار لها القرآن كما قال تعالى (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ)[المؤمنون:109-110] .
قال ابن كثير عن قوله تعالى "حتى أنسوكم ذكري" : (أي حملكم بغضهم على أن نسيتم معاملتي).
على أية حال .. كل الذي أردت الوصول إليه في هذه الخاطرة هو مقارنة الوقائع النبوية الأربع: (أبدلكم الله خيرا منهما)، (هل كان فيها عيد من أعيادهم؟)، (لكل قوم عيداً) ، (عيدنا أهل الإسلام). مقارنة ذلك بالمبدأ الذي استخلصه أهل العلم وصاغه ابن تيمية (الأعياد من جملة الشرائع والمناهج والمناسك)، وان العيد بحد ذاته شعيرة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
ابوعمر
محرم 1433هـ
هناك تعليق واحد:
شكر لك أبا عمر حرصك على نشير المفيد
خالد الشنيبر
إرسال تعليق