الحضارة المتبرجة
محمود بن محمد شاكر (ت:1418هـ)
نُشر عام 1359هـ
أُعطِيت هذه الحضارة الأوربية الحديثة أعظم روح من الفن كان في الأرض، من لدن آدم إلى يوم الناس هذا. وهذه الروح الفنية – على سموها في بعض نواحيها إلى غاية ما يتسامى إليه الخيال الفني – تتساقط وتتدنَّى وتنحدر من جوانبها إلى أدنأ ما يُبتذل من الفن العامي المثير لأشأم الغرائز الحيوانية في الإنسان. وبهذه الروح الفنية عالجت الحضارة الأوربية مشكلة الحياة السريعة الدائبة المثقلة بأعباء العمل، فاتخذت لكل ملل راحة واستجماماً، بلغت بهما غاية اللذة الفنية، تلك اللذة التي تجعل الأعصاب المجهدة إذا أوت إليها كأنما تأوي إلى بيت ذي رونق وزخرف وعطر وضوء يغمغم ألحاناً من الفن الموسيقي، فإذا بلغته استنامت بإجهادها على حشايا الخزِّ والديباج، نعومة وليناً ترسل في الأعصاب لذة تمسح الجهد حتى يسكن ويخفَّ ثم يتبدد.
وكانت المرأة هي فنُّ الفنِّ للإنسانية، وهي الشاطئ الوادع لبحر الحياة المتموج، وكانت الظلَّ الرطيب في بيداء موقدة تحت أشعة الشمس المحرقة، وكانت هي السكن للقلب المسافر دائماً في طلب أسباب العيش والحياة. فجاء فن المدنية الحديثة فجعل الشاطئ بحراً آخر يموج موجاً فنيًّا مغرياً يجعل السباحة المجهدة فيه ضرباً من الراحة، وتركت الظلَّ الرطيب حرارة مستعرة تحرق، ولكنها تحرق بلذة، وفرشت السكن حتى مدَّته طريقاً بعيداً مترامياً يسافر فيه القلب سفراً بعيداً في أحلام وفتنة وجديد لا يتقادم.
وبدأت المرأة بدءها لتجعل الحضارة فنًّا جديداً من تجميل الحياة للمكدودين. ثم جاءت الحرب الماضية، فخرجت المرأة من وطيسها المتوقد قد استوت ولذَّت وطابت، وتجدَّدت عقلاً وروحاً وجمالاً، وشاركت أسباب الحضارة في إيجاد حلٍّ جديد لمشكلة الإنسان العامل المنطلق في أعماله بسرعة وكد وإرهاق وعناء، فاتخذت فنَّ العقل السامي عبداً تصرِّفه في إنشاء لذات الحياة إنشاء عبقريًّا، تخشع لسلطانه النفس خشوعاً راضياً، ثم تمشي في جناته. تأبى أن تجد راحتها إلا راحة فيها، ذلك السحر الناعم الرقيق الفاتن، الذي يصنعه بنان مؤنث يقول للأشياء: كوني جميلة. فتكون.
وأعطت العين للمرأة أشواقها المستبدة، وزيَّنت المرأة للعين متاعها المتجدد، فاستيقظت الغرائز كلُّها من هزَّة الأشواق وحبِّ الاستمتاع، وانحدرت في دم الرجل قطرات الفتنة المؤنثة، وسطعت في كيانه كلِّه نفحات العطر المعربد، وألقت المرأة ظلَّها على كلِّ شيء ألواناً تتخايل بالفن المنسق البديع، وصبغت كلَّ شيء في حلاوة أنوثتها، حتى لم يبق للرجولة ولا للإنسانية هوى في الحياة إلا وهو من المرأة، وإلى المرأة، وفي سبيل المرأة.
وصارت المرأة هي المحور الذي تدور عليه الإنسانية في فلك الشهوات الضارية التي تنزع منازعها في حياة الإنسان باقتدار وقسر، وسار العالم كله على ذلك حتى ما يحسُّ ذو شعور أنه يعمل من أجل المرأة، مع أنه ما يعمل عامل إلا من أجلها. فهو في نشوة متصلة لا تنقطع في عمله، لأن الغرائز المنتشية هي التي تحكم وتصرف، وبذلك لم يبقَ له من الفكر ما يستطيع به في هذا الأمر أن يتبين حقيقة التيار المسكر الذي يتدافع به في حياته.
أصبحت الحضارة الأوربية بعد ذلك فنًّا جميلاً يتوالى فيه زخرف الحسن مبعثراً ومنتظماً، لأن الأعمال كلها قد احتملتها إرادة واحدة، هي إرادة جعل الحياة أجمل مما هي؛ لتكون أمتع للعين والقلب والنفس والغريزة، مع إسقاط مطالب الروح السامية المتحررة من استبعاد الشهوات.
ومن عجيب تصريف القدر في الحياة أن يجعل أعظم شيء فيها هو أقل الأشياء حظًّا من الحياة، فالروح التي هي أعظم ما وجد في الحياة، ترجع في غمرة اللذات والشهوات وأمواج الغريزة الطاغية، أقل ما وجد في الحياة، حتى ما يكون لها نصيب منها إلا ذلك الجو الأغبر القائم في عزلة موحشة، بعيدة عن تحقيق لذاتها الروحانية الحلوة التي تبقى حلاوتها خالدة في الهرم بعد الشباب، وفي العجز بعد القدرة، وفي السكون بعد الحركة وفي الموت بعد الحياة. وتقف الروح متغضنة جافة متكسرة، تنظر نظرة متألمة إلى ما يصيب الإنسان من اللذات الطارفة الطارئة، التي تتحول في نار الشهوات رماداً بعد توقد واشتعال.
فاعتزال الروح في هذه المدنية الأوربية قد جعل العالم يعيش ليحترق بأسرع ما يمكن أن يحترق، وهذا هو العلة في امتياز هذه المدنية بالسرعة والنشاط والتوقد، واحتمالها متاعب الجهد المضني في سبيل استغلال أقصى ما يستطيع الإنسان من الإنتاج في العمل، ثم امتيازها بنظام الطبقات الذي تجهد جهدها أن تستره بتلك الزينة الفنية العلمية الظاهرة، لئلا يكون معنى ذلك أن المدنية تريد أن ترتدَّ بالناس إلى الحالة الطبيعية الوحشية اللئيمة التي ينتجها اجتماع همجي مستبد لا يعقل، وإنما يكون فيه اللذة التي تسكر العقل، والظلم الذي يثير العقل، والأثرة التي تطغى العقل.
وجاء اشتراك المرأة اشتراكا عمليًّا في الحياة الأوربية العامة؛ ليقذف الروح بعيداً في عزلتها، ويدني غريزة تشتاق إلى غريزة تشوق، فكذلك بدأت الأنظمة الأدبية والاقتصادية والمدنية تخضع لسلطان الأشواق وحدها، دون سلطان الروح والعقل، وسلطان الأشواق هو الذي يكون غرضه دائماً أن يضيق ويتخصص وينفرد بأسباب شوقه، وسلطان الروح والعقل هو الذي يتراحب ويشمل ويعمُّ ويوجد المساواة بين الناس، مهما لقى من العنت والقسوة في وضع النظام الذي يريد أن يجعل به الناس أحراراً في قيود من الإنسانية السامية المترفعة عن الذل، كما تترفع عن بغي السطوة، والتي تستنكر العبودية الخاضعة، كما تستنكر الحرية الفوضى، والتي تأبى تحكُّم طبقة في طبقة، كما تأبى ثورة طبقة على طبقة.
ولكن تبرج الحضارة الأوربية في ذلك الخلق الجميل الفتَّان ذي الحيلة والفتنة والسحر الذي يعيش في صورة الأنثى، قسر هذه المدنية على الخضوع لسطوة الشوق المتمرد، فقام النظام كلُّه على هوى واحد إلى المرأة. فالعامل الذي يعمل يريد أن يستغل الحياة بين يديه، لا ليعيش ويعيش معه أهله وبنوه، وتلك الدولة الصغيرة التي تسمى البيت، بل هو يعمل ليجد أولاً تلك اللذة الحاكمة الممتعة التي يستمتع بها في ظل تلك الدولة العظيمة التي تسمَّى المرأة.
وإذا بدأت الطبقة العاملة من الشعب تجد حوافز أعمالها في شيء بعينه، كانت كل أعماله من الأدنى إلى الأعلى، لا تجد في أعمالها إلا هذا الحافز الواحد، وإذا تشابهت الحوافز تشابهت الغايات، وما يفترق هذا عن ذاك إلا بأن لكل شيء أسلوباً، ومهما اختلفت الأساليب في هذا، فلن تختلف في الدلالة إلا بمقدار الأصل العملي الذي يوجب هذا الاختلاف.
والمكان الذي نصت عليه عروس النفس الإنسانية في هذه المدنية الحديثة، هو الحافز وهو الغاية، ولذلك تجد هذه المدنية قد تبرَّجت لأبنائها تبرُّج الفنِّ العبقريِّ الحافل بأسباب التحكم المستمر في أعمال كلِّ حيٍّ. ولما كانت هذه الحوافز على تعددها إنما هي في الحقيقة اختصاص فردي لكل واحد من الناس– لأن اللذة لا تقبل الشركة والتعدد– ولكل اختصاص عيب هو الأثرة، والإصرار على التفرد، ومعاندة الناس بعضهم بعضاً في سبيل هذا التفرد – وقع التضارب والتعادي والانتقاض في كلِّ عمل، وصار ما يُبنى لا يكاد يتمُّ حتى يلقاه ما يهدمه، وبذلك كان نظام هذه الحضارة مع روعة ما يُبنى يقابله نظام آخر في الهدم والتدمير، يخيف هذا بقدر ما يروع ذاك.
ولولا هذا التبرج الفاجر في هذه المدنية، ولولا هذه الشهوات التي انطلقت تشرف من مسكرات الفن المتبرج، ولولا هذه الغرائز الجامحة في طلب السيطرة لإدراك غاية اللذة، لما كان النظام الاقتصادي الحاضر في هذه المدنية هكذا مهدماً مستعبداً مستأثراً باغياً، ولما تعاندت القوة الدولية هذا التعاند الذي أفضى بالعالم إلى الحرب الماضية، ثم إلى هذه الحرب المتلهبة من حولنا اليوم؛ وذلك في مدى خمسة وعشرين عاماً، لم يستجمع العالم خلالها قوته، ولم يتألَّف ما تفرَّق، إلا ليضيع قوته مرة أخرى ويتفرق.
إن الحضارة في هذه السنوات التي تبعت الحرب الماضية، كانت ترفِّه عن المكدودين ترفيهها الحلو الغني المتبرج؛ لتعطي القوى العاملة نشاطاً جديداً من النشوة، أي من الحالة التي يفقد فيها العقل والروح قدرتهما على التحكم في نظام الحياة. وأقدمت المرأة الأوربية إقدامها الجريء فجلبت زينتها من كل خيال، ومن كل فنٍّ، ومن كل سحر؛ لتعين الحضارة على الحياة والبقاء في هذا الجو الذي اختارته وعملت له. وكان هذا الإقدام ضرورة طبيعية للمقدمات التي سبقت عصر الحرب الماضية، ثم للحرب نفسها. فإن المرأة التي فقدت زوجها، والفتاة التي أضلَّت حبيبها، والبنت التي أضاعت قَيِّمها من أب أو أخ أو عم،... وبقيت في موج الحياة حيرى متلددة [أي: واقفة متحيرة لا تدري أين تذهب]، لم تجد بدًّا من الإقدام على الطريق المجهول بجرأة واندفاع وتهور، فلما أوضعت [أي: أسرعت] في الطريق المجهول، وأسرعت خطاها جرى العالم وراءها يطلبها، فلم تجد بدًّا من أن تأخذ منه أكثر ما تستطيع لتجتلب لزينتها أحسن ما تستطيع، وتطارد الصيد للصائد في كلِّ وجه، حتى اصطدم العالم كله هذا الاصطدام الهائل الذي لا يدرى إلى أين ينتهي، ولا كيف ينتهي.
وستخرج المرأة من هذه الحرب أيضاً كثيرة فاتنة حائرة، لا تجد أباها ولا زوجها ولا أخاها ولا حبيبها، وستكون في عينيها تلك النظرة الحزينة الضارعة التي تقول لك: أنقذني! أنقذني!! أنا وحدي، لا أجد من يعولني! وسينظر العالم الجديد إلى هذه المرأة بالرحمة والعطف والحنان، كما نظر للواتي كن بعد الحرب الماضية. وستعمل المرأة يومئذ لتكتسب الرجل في كل وجه، ثم لا تلبث أن توجد من بقايا العالم المتحطم سحراً جديداً لمدنية ساحرة، وبذلك يرتدُّ العالم إلى النظام الاقتصادي الفاجر المبني على اللذة وطلبها والبحث عنها، فتكون أنظمته كلها قائمة على الاستبداد، والفجور في الاستبداد.
ويومئذ يبدأ تحقيق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة وما يكون في أعقاب الدهر، إذ (يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيِّم الواحد)، وحتى (ترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلُذْن به). وما يكون ذلك إلا يوم يتحقق للحياة المعنى الفني المحض، الذي لا يعرف قاعدة اجتماعية يحرص على تحقيقها للاجتماع، والذي يرى الحرية انطلاقاً من قيد الأخلاق، التي تقسره على مصلحة الجماعة دون لذة الفرد، وتتبرج الحياة تبرجاً هائلاً يجعل العقل غريزة جديدة تشتهي، والروح خلقاً منبوذاً حائراً يطوف على هذه الفتن، كما يطوف الصعلوك على مائدة ملكية. ويومئذ يرفع العلم؛ لأنه سيستعبد في إيجاد اللذات، وتفارقه الروح النبيلة التي لا يكون العلم إلا بها علماً، ولا يبقى في الأرض إلا الجهل الأحمق، الذي لا يعرف إلا السيطرة بحماقة، والأثرة بكَلَب، وتكون المرأة هي علم الحياة الجديد الذي يمزق الرجولة القليلة في جذب الشهوات العنيفة، ويغرق الفضيلة في طوفان المتعة الجميلة التي تبعث في الأعصاب المجهدة نشوة مسكرة.
===================================================
اختيار موقع الدرر السنية : www.dorar.net
المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (1/216)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق