الخميس، يوليو 20

معالم في شخصية الشيخ عبدالكريم اللاحم ـ رحمه الله ـ


معالم في شخصية الشيخ عبدالكريم اللاحم ـ رحمه الله ـ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن لموت العلماء العاملين في الإسلام ثلمةٌ لا تسد، ومصيبة لا تحد، و كيف لا يكون الأمر كذلك، وهم ورثة الأنبياء، وحلية الأولياء، أمناء الله على شرعه، بهم يُعرف الحلال من الحرام، وإليهم المرجع في تقرير الأحكام، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يُذكرون الغافل، ويُعلمون الجاهل، لا يُتوقع لهم بائقة، ولا يُخاف منهم غائلة، بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون، وبجميل موعظتهم يرجع المقصرون، جميع الخلق إلى علمهم محتاج، والصحيح على من خالف بقولهم محجاج، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، هكذا شأنهم في الخَـلق.

ولقد رزئ العلم وأهله وطلابه بموت العالم الفذ، والإمام بحق، فضيلة شيخنا ووالدنا العلامة الذكي الزكي الفقيه القاضي الفرضي المحقق المدقق الأستاذ الدكتور عبدالكريم بن محمد بن عبدالعزيز اللاحم، وذلك في مساء يوم الجمعة ليلة السبت لتسعٍ بقين من شهر شوال من هذا العام ١٤٣٨هـ، عن عمر ناهز اثنين وثمانين عاما. لقد كان لموته رحمه الله وغفر له وأعلى منزلته، الوقع العظيم في نفوسنا، نحن معاشر طلابه ومحبيه. فياله من خطب، وما أعظمه من مصاب، ولقد صدق القائل:      
لمثل ذا الخطب فلتبكِ العيون دما** فما يماثله خطبٌ وإن عظما
 كان الشيخ رحمه الله مثالاً للعالم الزاهد، المحقق المدقق، والتقي النقي، ولقد تميّز رحمه الله بصفات جليلة، وسجايا حميدة، أُجمل أبرزها في الآتي:
الأول: الزهد والتواضع، والعزوف عن الدنيا وبهرجها، فالشيخ رحمه الله مؤثر للبساطة في ملبسه، ومجلسه، لا تكاد تميزه عن غيره، إلا بالهيبة وجلال العلم، ووقار الدين، يُباشر مهام أهله وأولاده وشؤون البيت بنفسه، لا يأنف البذاذة والتواضع، مع ما هو عليه من مكانة سامقة في العلم والمنصب.
الثاني: الهيبة والوقار، فالشيخ رحمه الله مهيب الجانب، تتصف شخصيته بالحزم والرزانة، لا يجرؤ أحدٌ أن يقول في مجلسه أو بين يديه هُجرا، يؤدب بالنظر، ويؤنب بالإعراض، لا يمس من زلّ في ذلك بسوءٍ من القول، ولقد لازمته - بفضل الله وكرمه - أكثر من عشرين عاماً، لا أذكر يوما عنفني، أو زجرني، أو عنف أحدا ًمن زملائي، فعليه رحمة الله ورضوانه.
الثالث: الغيرة العظيمة على الدين وحرمات الشرع، فهو رحمه الله شديد الغيرة على دين الله، شديد التوجع على أوضاع المسلمين، وما آلت إليه أحوالهم، وهو كذلك  دائم التألم  لما أصاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الضعف، ويخشى من مغبة ذلك، وكان لا يفتر عن تفقد أحوال الهيئة وأهلها، ولقد كنا نمسك كثيراً عن التوسع معه في الكلام حول ذلك؛  لما نرى من تأثره وتألمه، وقد كان شيخنا رحمه الله يردد عند ذكرنا المنكرات وانتشارها ما قاله شيخه وأستاذه العلامة عبدالرزاق عفيفي في وصف الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم رحمها الله: أنه يعني - الشيخ محمد بن إبراهيم - كان أمام المنكرات كالحجر أمام القطار، فمتى زُحزح الحجر انطلق القطار. ويقول شيخنا رحمه الله: كان الشيخ محمد بن إبراهيم سداً منيعا في وجه المنكرات. قلتُ: وهكذا كان طلابه النبلاء من بعده كالعلامة الشيخ عبدالله بن حميد والعلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز، وغيرهما من مشايخنا، حتى ضعف الإنكار بموت أولئك الكبار، والله المستعان.
الرابع: الذكاء المتوقد والفطنة اللامعة، وهما من أبرز صفاته وأكثرهما ظهوراً، فقد كان رحمه الله حاد الذهن، ثاقب الفهم، شديد الذكاء، قوي الإدراك، حاضر البديهة، ذا فطنة وانتباه، يُذكرني ذكاؤه، وحدّة ذهنه، بما جاء في ترجمة جلال الدين المحلي: "أن له ذهنا يثقبُ الماس" من شدة ذكائه. ولما كان شيخنا موصوفاً بتلك الصفات العزيزة؛ فقد أكسبه ذلك قوة في العلم، وقدرة فائقة على تصوير المسائل العلمية واستخراج دقائقها، بما يبهر العقول، ويحيّر الألباب.
وكتابه: المطلع على دقائق زاد المستقنع، والذي بلغ خمسة وعشرين مجلدا ولم يكمله بعد، خيرٌ شاهد على ما نقول. ولله در القائل:
محقق أبحاث العلوم بفهمه *** وكشاف ما يخفى العبارة من قصدِ
إذا ما عويص البحث أشكل حله *** بفكر يُرى أمضى من الصارم الهندي
الخامس: الرسوخ في العلم، والضبط التام لأصوله: فقد كان رحمه الله من الراسخين في العلم، المتمكنين من ضبط أصوله، لا تضطرب عنده مسائله، ولا يربكه الخلاف، يعتبر الخلاف بالدليل وبالأصول والقواعد ومقاصد الشرع، ويعرض الأقوال من خلالها.
وقد جعل رحمه الله كتاب (زاد المستقنع) أصلاً له في الفقه.
و (روضة الناظر) أصلا له في أصول الفقه.
و (قواعد ابن رجب) أصلاً في قواعد المذهب يخّرج المسائل عليها.
و (ألفية بن مالك) أصلا له في النحو والصرف.
و (بلوغ المرام) أصلا له في أحاديث الأحكام.
و (الرحبية) أصلا له في الفرائض.
و(ترتيب القاموس) أصلا له في متن اللغة.
فضلاً عن (كتب التوحيد والعقيدة ورسائل أئمة الدعوة).
ولم يكن الشيخ رحمه الله كثير المحفوظات، بقدر ما منحه الله من سرعة الفهم وقوة الإدراك، وجودة الاستنباط ودقته، والمكنة من تدريس العلوم الشرعية والعربية.
السادس: الجَلَد على التعليم والمحافظة على الدروس، لقد كان رحمه الله رغم ارتباطه بالأعمال الإدارية الكبيرة قبل تقاعده من العمل في ديوان المظالم، لا يدع الجلوس للدرس، وكذا بعد تقاعده، فقد كان لشيخنا جلستان في بيته الأولى: بعد صلاة المغرب، والثانية: بعد صلاة العشاء، وذلك في جميع أيام الأسبوع.
ولم يكن شيخنا يحضّر للدروس؛ لعدم توفر الوقت لديه لاسيما أثناء وجوده على رأس العمل، وأما بعد تقاعده رحمه الله فقد تفرّغ للتأليف، غير أن مواضع تأليفه في غير مواضع دروسنا، وكان يعتذر لنا عن التحضير للدرس بحاجته للوقت لإنهاء مؤلفاته ومشروعاته العلمية، ورغم ذلك فقد كان الطلاب يعجبون من قوة استحضاره للمسائل أثناء الدرس، ونقول في أنفسنا وفيما بيننا فكيف لو كان شيخنا يحضّر للدرس؟ كيف سيكون استحضاره للمسائل وكلامه عليها؟
ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وكذلك لما ثقُل به المرض لم  يدع الجلوس للدرس رغم شدة ما يلاقيه من ضيق التنفس، ورغم أنه كان يصطحب معه جهازا وكانت أنابيب ذلك الجهاز في أنفه، وهو مع ذلك حاضر الذهن، سريع الجواب، مع فطنة تامة لقيود المسائل، ومحترزات الألفاظ، لا يذهل ولا يغفل، ولا تشذ عليه المسائل، ولم يمنعه من ذلك ما يكابده من شدة المرض، فسبحان من إذا أعطى أجزل، وإذا أعان سدد، وشيخنا رحمه الله مع كل تلك الابتلاءات والظروف الصحية الصعبة صابر محتسب، كثير اللهج بذكر الله وسؤاله أن يحسن خاتمته ويريح ميتته، ولم تطل بحمد الله مدة مرضه، ونرجو له - إن شاء الله  - حسن الخاتمة .
فهذه معالم موجزة عن شخصية شيخنا ووالدنا العالم الجليل عبدالكريم بن محمد اللاحم رحمه الله رحمة الأبرار، وأنزله الفردوس الأعلى من الجنة بمنه وفضله وكرمه.
 أردت بها الحديث على سبيل الاختصار إلى أبرز الملامح والجوانب في شخصيته الفذة، وللحديث بقية إن شاء الله حول طريقته في التدريس والتأليف، وذكر شيء من اختياراته الفقهية، وتنبيهاته العلمية، نسـأل الله الإعانة والسداد.
 وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحابته وسلم تسليما كثيرا.
وكتبه

ابنه وتلميذه، والمدين له بالفضل بعد الله عز وجل

إبراهيم بن سليمان التركي

صبيحة الثلاثاء 24/10/ 1438هـ



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق