اتقوا الله يا أهل الفلك
مازال بعض المهتمين بعلم الفلك و المنتسبين لـه، و المتأثرين بهم ، ينغصون على الناس حياتهم عند أي اختلاف بين الرؤيا الشرعية، وحسابات الفلك، فيشككون الناس في صيامهم، مخالفين بذلك ما جاء صريحا بلا لبس، أو غبش عن المصطفى صلى الله عليه وسلم،(إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، وهكذا"، وعقد الإبهام في الثالثة " والشهر هكذا وهكذا وهكذا" يعني تمام الثلاثين)
أي ليس من شأننا الكتابة ولا الحساب، فالشهر في الشرع ما بين الهلالين ويدرك ذلك إما برؤية الهلال، وإما بكمال العدة ثلاثين قال شيخ الإسلام هو: خبر تضمن نهيا, فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط , أمة لا تكتب ولا تحسب, فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم, بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة، فيكون قد فعل ما ليس من ديننا و الخروج عنها محرم منهي عنه, فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهيا عنهما وأحالهم على الرؤية وهذا ما أجمع عليه أهل الإسلام،فليس مقصود الشارع أننا لا نعرف نكتب ولا نحسب بمعنى: إن الأمة جاهلة لا تقرأ ولا تكتب وإنما المقصود: أن الكتابة والحساب في مسألة الرؤية ليس من منهجنا، ولا نعتمد عليها،لإسلام لا يعتمد على الظنون، ولا على الحسابات، أنما يعتمد على أشياء محسوسة، وهذا المنهج المنضبط في الشرع منهج قام عليه الإسلام، ليس في مسألة الرؤية فقط، بل في جميع المسائل، فأحكام الشريعة لا ترتبط في أمورا ظنية، أو خفية لا يعرفها إلا القليل، بل لابد أن تكون محسوسة ظاهرةً للعيان، يعرفها القاصي والداني لتعلقها بالعبادة،و أوضح مثالا على أن الشرع يعتمد على المحسوس لا على المظنون: ما جاء في أمر الصلاة، حيث جاء النهى صراحةً عن اعتماد الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، فنهى المصلي أن يترك الصلاة لمجرد الظن بانتقاض وضوئه، قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟، فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ). رواه مسلم , فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلق الأمر بالظن، بل علقه بأمر حقيقي محسوس، فالشريعة لا تلتفت إلى الأمور الظنية، كما في قوله تعالى: ( فإن الظن لا يغني من الحق شيئا )قال الحافظ -ابن حجر المعول رؤية الأهلة، وقد نهينا عن التكلف،- قال الجصاص: ( هذه عبادة تلزم الكافة، لم يجز أن يكون الحكم فيها متعلق بما لا يعرفه إلا خواص الناس، مما عسى لا يسكن إلى قولهم ) قال النووي: ( لو كلف الناس بذلك لضاق عليهم، لأنه لا يعرف الحساب إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار ولقد نص النبي صلى الله عليه وسلم، صراحة على عدم اعتماد الحساب في ثبوت دخول الشهر وخروجه، مع أن الحساب معروف وظاهر في ذلك الزمن، بل ولم يجعله أحد الخيارات أو خيارا بديلا عند الغيم،والقوم يريدون ان يجعلوه حاكم على الهلال مهيمنا عليه،قال شيخ الإسلام بن تيميه –رحمه الله –: (إننا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم، أو الحج أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحساب، أنه يرى أو لا يرى: لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – كثيرة , وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلافا وما قاله مسلم حيث ثبت في السنة الصحيحة، واتفاق الصحابة، أنه لا يجوز الإعتماد على حساب النجوم،والمعتمدُ على الحساب في الهلال، ضال في الشريعة مبتدع في الدين،مخطئ في العقل والعلماء يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي، فإنها تختلف باختلاف حدة النظر ). انتهى كلامه رحمه الله.وقال الجصاص: (من قال باعتبار منازل القمر وحساب المنجمين خارج عن حكم الشرعية ،وليس هذا القول مما يسوغ الاجتهاد فيه، بدلالة الكتاب ونص السنة وإجماع الفقهاء على خلافه)وقال سند: (لو كان الإمام يرى الحساب في الهلال فأثبت به لم يتّبع لإجماع السلف على خلافـه )وقال مالك قوله: (في كون الإمام لا يصوم لرؤية الهلال، ولا يفطر لرؤيته ،وإنما يصوم ويفطر على الحساب، أنه لا يقتدى به ولا يتّبع )فما بال بعض القوم ينغصون ويشغبون،ويصدرون بيانا يناقض بيان الديوان الملكي، مع أنهم جهة لم تنط بهم تلك المسئولية، محدثين ببيانهم شرخا وفتنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال النووي (من قال بحساب المنازل فقوله مردودا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم – :"إننا أمة أميه" ).وقال ابن دقيق: ( فإن ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله ). وقال السبكي: ( وأجمع المسلمون أنه لا حكم في ما يقوله الحاسب وقال ابن قدامه: ( لو بنا على قول أهل المعرفة بالحساب فوافق الصواب لم يصح صومه، ولوكثرت إصابهتم ، لأنه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه، فكان وجوده كعدمه وقال شيخ الإسلام: ( العمل في رؤية الهلال في خبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى: لا يجو وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ( رؤية الهلال مقدمة على الحساب لقوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ).
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم ( لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له ). متفق عليه، وفي رواية : ( فاقدروا له ثلاثين). رواه مسلم ، وفي رواية: ( فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين )، وفي رواية عند البخاري ومسلم: ( فإن غم غليكم فأكملوا العدة ثلاثين ). فنجدة النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى في مسألة الغيم لم يلجأ للحساب، بل ألغاه كلية و أجمع السلف على عدم اعتماد الحساب، حتى لو غم على الناس، فلا خلاف عندهم أنه لو لم يرى الهلال ليلة الثلاثين أنه يكمل شهر شعبان ثلاثين يوما، لا خلاف بين أهل العلم في ذلك، نقل الإجماع غير واحد.
فما بال القوم يصرون على اعتبار الحساب وتقديمه عند اختلافه مع الرؤيا ومخالفة النصوص صراحة والعجيب أن بعضهم قال أعمل الحساب في نفي الرؤية لا في إثباتها! وهناك سؤال يطرح: هل ارشد النبي صلى الله عليه وسلم لهذا او سكت عنه ؟ الحق انه اعرض عنه ، مع أنهم في الحقيقة جعلوا الأصل الحساب، فإن قال أهله يرى أيدوا الترائي، وإن قال أهل الحساب لا يرى، شنعوا على من تراءوه وسلقوهم بألسنة حداد، ووصفوهم بأوصاف لا تليق ، سعيا لإنقاص قدرهم ومقامهم، وإحراجهم مع الناس، وهكذا حال كثير ممن يجانبون الحق يؤذون إتباعه، وقد سمعنا من الكلام غير اللائق في حق فضلاء عرفوا بفضلهم محتسبين عرفوا بغيرتهم لا يريدون بعملهم درهم ولا دينار، إنما سخرهم الله لدينه، فغمزوهم ولمزوهم، فمرة يصفونهم بالعامية ومرة تهكم بزرقاء اليمامة، بل وصفوا بأنهم رعاة غنم تهكم وسخرية وما علموا بان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام رعاة غنم، ومرة بأنهم معلمو تربية رياضية إلى غير ذلك ،وما أدري ولا يدري عاقل ما علاقة الرؤيا وقوة البصر وحدته والعامية وغيرها من الاوصاف القادحة؟فالرسول –صلى الله عليه وسلم – اعتمد قول أعرابي
عباد الله لقد خالف هؤلاء القوم بتشغيبهم القاعدة التي اتفقت عليها الأمة، بأن المثبت مقدم على النافي، وهذا والله من الخذلان المبين .و وصل الحال ببعضهم إلى التشكيك في معرفة الهلال وانضباطه فوصفوا المترائين في عام من الأعوام بأنهم رأوا الإكليل! يحسبونه الهلال؟! وهذا العام 1432هـ بأنهم رأوا زحل!، فإن كان الإكليل وزحل يحملان صفة الهلال وقت خروجه، فلماذا لم يوضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للناس حتى لا يلبس عليهم، وفي هذا تلبيس على الناس، بل أخشى أن يأتي من يقول بأن الصحابة الذين رأوا الهلال رأوا أكليل و زحل.
ولازم قولهم هذا تشكيك بلا مرية فيه في الشرع ، لأنه لم يوضح الفرق بين الهلال، وزحل، والإكليل، لاتفاق صفتهما مع الهلال, والدين ولله الحمد قد كمل و ما كان ربك نسيا فليتق الله هؤلاء ولا يستغلوا القنوات التي فتحت المجال لهم بمجال واسع وضيقته على غيرهم و لا حول ولا قوة إلا بالله .
وبعض المنتسبين للفلك المتأثرين بهم وصل الحال ببعضهم إلى صوم يوم العيد مخالف بذلك ما عليه أهل الإسلام مجانب لقوله – صلى الله عليه وسلم – ( صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون ), وغيره، مع اختلاف بين رفعه ووقفه، ومع إن المعول عليه في هذه المسألة ما عليه الإمام إذا كان متبع للشرع، وهذا ما عليه إمامنا وولي أمرنا وفقه الله لرضاه ، وبعضهم أوجب القضاء على من أفطر في يوم العيد ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولقد تحسرت كثيرا حينما رأيت أن دوافع بعضهم برد الرؤيا سببه روحا انهزامية عنده وهي: خشيته أن يحرج مع الغرب، لأن الغرب نفى بعضهم الرؤية واستحالتها في يوم الاثنين الماضي 29/9/1432هـ، فقال: إننا بذلك نسيء لأنفسنا أمام الغرب، والذين قد يقولون بأن عندنا من قوة إبصارهم أقوى من التلسكوبات والمناظير،قلت ومال المانع من تمكنهم من ذلك لقوة إبصارهم ولو استعان بالأجهزة لكان ذلك مؤكدا لهم ، وقوة الأبصار نعمة من الله ولا خلاف أن حدة النظر تختلف من شخص لآخر قال شيخ الإسلام: ( لكن الرؤية ليست مضبوطة بدرجات محدودة، فإنها تختلف باختلاف حدة النظر، وكلاله وارتفاع المكان الذي يتراءى فيه الهلال، وانخفاضه، وباختلاف صفاء الجو وكدره، وقد يراه بعض الناس لثمان درجات وآخر لا يراه لاثنتي عشرة درجة، ولهذا تنازع أهل الحساب في قوس الرؤية تنازعا مضطربا، وأئمتهم كبطليموس، لم يتكلموا في ذلك بحرف، لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي، وإنما يتكلم فيه بعض متأخريه، مثل كوشيار الدليمي وأمثاله، لما رأوا الشريعة علقة الأحكام بالأهلة فرأوا الحساب طريقا تنضبط فيه الرؤية ، وليست طريقة مستقيمة ولا معتدلة، بل خطؤها كثير ، وقد جرب، وهم يختلفوا كثيرا هل يرى أم لا يرى؟ وسبب ذلك: أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب فأخطأوا طريق الصواب).
والعجيب أن بعض من يحمل الروح الانهزامية وعدم الثقة والاعتزاز بما جاء به الإسلام لو عملوا بقاعدتهم هذه فإن أمامهم مئات النصوص والمسائل الشرعية التي ستحرجهم قطعا أمام الغرب ولا تروق له كمسألة: قطع يد السارق، فهي عند الغرب تخلف، ورمي الزناة عند الغرب همجية، وجلد شارب الخمر عند الغرب عنف، والحجاب تخلف، وولاية الرجل للمرأة ظلم وجور، والحج من مظاهر الوثنية، وسلسلة لا تنتهي، وبعضهم يفتقد الاعتزاز بدينه، فيخشى من نقد الغرب ولمزهم، وأخشى أن يصل الحال به إلى الركون إليهم، وإخضاع أمور الشرع لهم, وما علم هؤلاء أن الغرب لا يرضيهم إلا اتباع دينهم،
والاعتماد على الأهلة كان منهج الأنبياء من قبل عليهم الصلاة والسلام، قال شيخ الإسلام: ( قد روى غير واحد من أهل العلم، أن أهل الكتاب من قبلنا إنما أمروا بالرؤية في صومهم وعباداتهم، وتؤولوا على ذلك قوله تعالى "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " ولكن أهل الكتاب بدلوا, بل بين أبن قدامه أن الناس لم يختلفوا في أن الأشهر الحرم معتبرة بالأهلة.
عباد الله أوصي نفسي وغيري بتقوى الله، كما أوصي من حباهم الله قوة الإبصار وعرفوا بالعدالة أن يصبروا على ما يتلقوه من أذى والله يقول " وبشر الصابرين " ويقول " والله يحب الصابرين "وبقوله تعالى : ( وما يلقاه إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) ، وأذكرهم بقول الله تعالى: " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " فهم يتعرضون لاختبار من الله، فهل يثبتون على ما حباهم الله له من خدمه للدين ونفع للناس؟ أم يؤثر بهم أولئك الذين سلقوهم بألسنة حداد فيدعوا ما هم عليه من خير حماية لأنفسهم من هذا السب والشتم، وأبشرهم بأنهم على خير، وأحسب أن الله قد كتب لهم القبول، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
قاله وكتبه
الدكتور/ صالح بن مقبل العصيمي التميمي –
المشرف على موقع الإسلام نقي ،
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق